[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedaldaamy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]أ.د. محمد الدعمي[/author]
..لأن اللغة هي وعاء الثقافة، نلاحظ بأنها تذبذبت، شيوعاً واستعمالاً، مع محتوياتها الثقافية. لذا تسمع اليوم عن لغات ماتت ولم يتبق منها إلا نصوص محفورة أو مكتوبة، مثل اللغات القديمة، كالسومرية والأكدية والمصرية القديمة. بل وحتى اللغة اللاتينية التي لم يتبق منها سوى معاجم عظيمة تعد مناجماً لاستخراج أو لسك المصطلحات العلمية أو الثقافية،

إذا ما أتاح كتاب (الف ليلة وليلة) الأدلة المؤكدة على تآصر ثقافات الشرق القديمة والوسيطة لإنتاج هذا العمل الفولكلوري الساحر، فان تآصر الثقافات يقود المرء الى محاولة سبر أغوار ما يسمى بـ»التثاقف» Acculturation، أي عملية التفاعل الثقافي بين ثقافتين أو أكثر، تلاقحاً، على سبيل إنتاج ثقافة من نمط جديد تبرز الثقافتين الأصل، كما ينتج أي تلاقح بايولوجي سلالات جديدة ناتجة عن مزج جينات الكائنات المتلاقحة.
ربما كان هذا هو سبب افتتان العالم الغربي بـ(الليالي العربية)، درجة وضع بعض الشعراء والكتاب الغربيين هذا العمل العظيم بالمرتبة الثانية بعد كتبهم الدينية المقدسة أحياناً، نظراً لما تتيحه (الليالي) من منظورات نادرة لمباشرة الثقافات الشرقية، إيجابياتها وسلبياتها وسحرها الخاص.
وإذا كانت ثقافة معينة، كالثقافة العربية، أو العربية/الإسلامية تمثل مجموعة مباديء وقيم وتقاليد متوارثة واتجاهات ذوقية، تخص منتجيها وحواضنها البيئية والزمنية، فان الذي ينتج من التثاقف أو من التلاقح الثقافي يكون شيئاً أشبه مايكون بتفاعل الـ»كروموسومات» الوراثية عبر التسلسل الوراثي: إذ تطغي الكروموسومات القوية على الكروموسومات الضعيفة كي تتبلور النتائج الأخيرة في الولادات والتكاثر المتتابع جيلياً.
من هذا المنظور البايولوجي (الإحيائي)، يمكن للمرء أن يستخلص عدداً من قوانين التفاعل الثقافي، ومن أهمها تفوق صفات الثقافات المهيمنة على مكافئاتها من الثقافات الضعيفة أو الواهنة، تأسيساً على جدل بايولوجي من النوع الذي طوره «تشارلس داروين» في القرن التاسع عشر، أي جدل «البقاء للأصلح».
هكذا يقدم لنا «تاريخ الأفكار» العديد من الحكايات عن ثقافات تفوقت وهيمنت، سوية مع أخرى اندثرت وتلاشت حتى انقرضت نهائياً. ومعنى هذا الجدل أن الأساس في تاريخ الأفكار هو ذاته: الأساس الصراعي بين أقوياء وضعفاء. ينتصر الأقوياء ويهزم الضعفاء الذين لا يقوون على الصمود والبقاء. لذا يعكس تاريخ الأفكار صوراً عن ثقافات مندثرة، لم يتبق منها إلا آثاراً، بينما هو يعكس صوراً أخرى لثقافات تمكنت من الصيرورة والبقاء والتواصل حتى هذا اليوم.
ولأن اللغة هي وعاء الثقافة، نلاحظ بأنها تذبذبت، شيوعاً واستعمالاً، مع محتوياتها الثقافية. لذا تسمع اليوم عن لغات ماتت ولم يتبق منها إلا نصوص محفورة أو مكتوبة، مثل اللغات القديمة، كالسومرية والأكدية والمصرية القديمة. بل وحتى اللغة اللاتينية التي لم يتبق منها سوى معاجم عظيمة تعد مناجماً لاستخراج أو لسك المصطلحات العلمية أو الثقافية، إلا أن هذه الحال لا تنفي حقيقة مريرة، خلاصتها أن اللاتينية لغة ميتة، حبيسة الحرف المكتوب والسطر المطبوع فقط: فلا يتكلمها أحد، ولا يمكنك توظيفها للتسوق في أثينا أو في روما.
إن بواعث إعتزازنا باللغة العربية لا ينبغي أن تحصر في أطر دينية أو روحية حسب، أي باعتبارها لغة القرآن الكريم ولغة الحديث الشريف ولغة أهل الجنة: هذه الأسباب لا تكفي مبررات للاعتزاز باللغة العربية في عصرنا الراهن، ذلك أننا لا نصبو لأن تكون العربية لغة طقوس وصلوات وأدعية فقط، بل نتوثب الى أن تواكب العربية العصر، فلا تتخلف عن حركة ركبة، وإنما توازيه، متفاعلة مع ثقافاته ومع ما تحتويه من ثراء ثقافي وتفاعل مزاجي وذوقي بيننا وبين سوانا من اصحاب الألسن الأخرى، أي الألسن التي تشكل واجهات لثقافات تقدمية أو جديدة، من نوع اللغة الإنجليزية التي تحاول حضاراتها اليوم احتكار تنميطها وتشفيرها على ذبذبة حركة العصر الرقمي، الإلكتروني الشائك. بلى، نتوثب أن يتعلم أبناؤنا معطيات عصر الحاسوب و»الدرون» بواسطة العربية، وليس عبر طريق كأداء تتطلب اتقان لغة أوربية، على سبيل الانتقال الى لغة «الرقميات» السريعة التبدل والاستبدال والاستحالة الرمزي!