[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/uploads/2015/09/mmostafa.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]محمد مصطفي [/author]
لن نتحدث عن الغش بين الدول، فذلك في بعض قواعد العلاقات الدولية يسمى «مناورة» أو «مهارة»، كما أنه في الحرب يعد تكتيكا ايجابيا على أساس أن «الحرب خدعة». يظل أنه في بعض الأحيان تكون هناك فجاجة في التدليس في العلاقات الدولية، خاصة ممن ينادون بمبادئ يكونون أول من ينتهكها أو من يغشون العالم برفع شعارات يمارسون عكسها لأغراض تضر بشعوب ودول أخرى.

بما أن التشخيص نصف العلاج، وآخر العلاج الكي، فإن الخطوة الأولى على طريق أي إصلاح هي الاعتراف بأن هناك ما هو غير صواب ومن ثم يتطلب تعديلا أو تقويما. وإذا لم نعترف وأخذتنا العزة بالإثم لن يكون العلاج شافيا ولن تنصلح الأمور ونغرق في حالة الانكار المرضية أكثر ونعاني من العنجهية المميتة. وهذا جانب من معنى الآية الكريمة من سورة الرعد: «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم». ولن يكون هناك تغيير ما لم نعترف بالحاجة إليه، رغم أن «الحقيقة مرة» أحيانا لكن مواجهتها أفضل كثيرا من دفن الرؤوس في الرمال واقناع النفس بأن «كل شيء تمام».
ينطبق ذلك على الفرد والجماعة والأمة والبشرية جمعاء، وغالبا ما يكون أول العلاج الكي بإقرار الحقيقة المرة لكن ذلك يسهل العلاج ويجعل آخره أخف كثيرا من أوله. وإذا كان أمر الأفراد متروك لكل منا، فمن أراد إصلاح نفسه فليعترف بينه وبينها بالحاجة للتغيير أولا. وإذا بدأ الفرد بنفسه، فليس ذلك بالضرورة سبيلا لأن يتغير حال الجماعة حتى وإن جعل إصلاح شؤون الجماعة أسهل. ودعونا من أمر الفرد الآن، ولنهتم بشؤون الجماعة التي وصلت إلى وضع في منطقتنا لم يكن يتصوره أحد قبل عقود قليلة.
بداية، وفي التشخيص، تتملكنا حالة الانكار والجدل العقيم والعنجهية فيما يتعلق بكافة أمراض مجتمعاتنا تقريبا من انكار وجود الفساد والرشوة (أو المحاججة بأنها ظاهرة في كل الدنيا وليس في بلادنا فقط) إلى انكار أن داعش وأمثالها نتاج أفكار وثقافة أصولية منتشرة في مجتمعاتنا. وما بين هذه وتلك هناك كثير من العلل المجتمعية التي تعاني منها بلدان منطقتنا ونتيجة صلفنا في الاعتراف بها أو لجوئنا لتبريرها تتجذر وتتفاقم حتى تكاد تستعصى على العلاج. وإذا كانت آفة سلوك الأفراد الكذب، فإن المجتمعات تكذب ايضا (في الأغلب على نفسها) ولأن الكذب «أبو الشرور» فإن هو العقبة الكأداء أمام أي تغيير لاستحالة أن يغير قوم ما بأنفسهم وهم يكذبون عليها.
ولكثرة الأمثلة، دعونا نركز على مثال أو اثنين ولنأخذ مثلا الغش. إنها آفة موجودة بكل المجتمعات، وأيضا من سلوكيات بعض الأفراد. ورغم وجود القوانين الوضعية الرادعة والعقوبات التي تطبق على من يثبت قيامه بالغش إلا أن الغش قائم ويزيد في فترات التراجع العام للدول والمجتمعات. وعندنا في بلداننا رادع ديني قوي (يفترض أنه أقوى من الرادع الانساني الذي يحض على الأمانة عند غير المتدينين) لكنه للأسف لا يحول دون انتشار الغش، بل إن البعض يستغل تدينه المزيف المرائي لتبرير ذلك على أنه «شطارة». ولا يقتصر الغش على التعاملات بين الأفراد، أو في تعامل الشركات والمؤسسات بل إن الغش آفة تمتد إلى ما هو غير مادي أيضا ـ ولعل أسوأ الغش هو ذلك الذي يخدع العقول والقلوب.
وهذا الشكل الأخير من اشكال الغش هو الأسهل تبريرا لدى من يرتكبونه، كما أن أثره وإن كان يصعب حسابه كميا كما في حالات الغش التجاري إلا أنه أخطر بكثير على مستقبل المجتمعات والدول. فالحكومة التي تغش مواطنيها ويجد الجميع لذلك طريقة لتجاوز الأمر على اعتبار أن «السياسة كلها كذب» ترسخ في الواقع لتوجه يتفاقم حتى يصل الأمر إلى انعدام الثقة التام في شكل إدارة المجتمعات حتى لو تولاها من هو مخلص وجاد فعلا. والشعب الذي يغش السلطات بالتحايل على القانون إنما ينال من أساسيات الدولة التي يريد أن تحميه وتدير شؤونه العامة ولا يدرك أنه بذلك يقضي على ما يريد بناءه من كيان يخدمه في النهاية.
لن نتحدث عن الغش بين الدول، فذلك في بعض قواعد العلاقات الدولية يسمى «مناورة» أو «مهارة»، كما أنه في الحرب يعد تكتيكا ايجابيا على أساس أن «الحرب خدعة». يظل أنه في بعض الأحيان تكون هناك فجاجة في التدليس في العلاقات الدولية، خاصة ممن ينادون بمبادئ يكونون أول من ينتهكها أو من يغشون العالم برفع شعارات يمارسون عكسها لأغراض تضر بشعوب ودول أخرى. ويبقى أن الغش بين الأفراد والجماعات وداخل الدول والمجتمعات هو أكثر تداعيات الكذب سوءا. وطالما أننا نجد مبررا له، أو نتعلل بأنه «مفهوم» لأسباب أيا كانت، فمن الصعب مواجهته بل إننا بذلك نشجعها ونزيد من اتساع رقعته. وما لم نغير ما بأنفسنا ـ وبداية التغيير أن نعترف بأن ما نفعله ليس صحيحا ـ لن يكون هناك إصلاح.
ليس الغش إلا مثالا، والعلل كثيرة ومحصلتها هي ما نعاني منه في منطقتنا والعالم رغم ادعاء زيادة التدين ورفع شعارات الانسانية والمبادئ السمحة. ولا شك أن كثيرا من مشاكلنا وصراعاتنا يعود أساسها إلى تلك السلوكيات المرضية التي تفشت في مجتمعاتنا نتيجة كذبنا على أنفسنا قبل غشنا للآخرين. وما لم نغير ما بأنفسنا لن نستطيع إصلاح أحوالنا، بل على العكس سنواصل منحى التردي الذي يبدو الآن بلا قاع.