عمّان ـ العمانية
شهدت العاصمة الأردنية عمّان أخيرا انتشار متزايداً لظاهرة المقاهي الثقافية العصرية التي تتسم بأجوائها الحميمة الجاذبة للمثقفين والمبدعين والفنانين، حتى ليجد الزائر أن جميع رواد المقهى يعرفون بعضهم بعضا دون المسّ بما ينشده بعضهم من خصوصية، إذ قد ينفرد أحدهم ليكتب أو يقرأ أو يتأمل في ركن هادئ، أو قد يلتقي اثنان أو أكثر في زاوية ما يتحاوران في مسألة ما، أو قد تلتئم مجموعة كبيرة حول طاولة في صدر المكان للحديث في أمور تهمّهم.والمقاهي الثقافية في عمّان ليست وليدة الحاضر بالتأكيد، فقد عرفتها المدينة منذ مطلع القرن الماضي، إذ افتُتحت مقاهٍ في وسط البلد أبرزها مقهى "حمدان" الذي يحضر في الذاكرة الشعبية كحاضن للاجتماعات الوطنية وملتقى للنخب الثقافية والسياسية ومركز لصنع القرار.فقد شهد هذا المقهى عقد أول مؤتمر وطني عام ضم سياسيين وممثلين عن الأحزاب الوطنية ومثقفين وكتّابا أبرزهم شاعر الأردن مصطفى وهبي التل الملقب بـ(عرار).وفي منتصف القرن الماضي صار اسمه "مقهى الجامعة العربية" على ما يرجّح الباحثون والمؤرخون، ثم تم هدمه قبل سنوات في سياق مخطط لـ"تطوير المدينة" لم يأبه باحتجاجات الكثيرين الذين طالبوا بالمحافظة على المعالم التاريخية لكونها تروي سيرة المدينة.ومن أقدم المقاهي العمّانية التي ظهرت استجابة للتوسع العمراني، مقهى"بلاط الرشيد" الذي يعود إلى العشرينات من القرن الماضي، ومقاهي "الأردن " و" السنترال" و"كوكب الشرق" و"الأوبرج" و"وادي النيل".وما زالت المقاهي الفاعلة منها تستقبل الزبائن، ومن بينهم المثقفون الذين تتخذ كل مجموعة منهم أحد المقاهي مكانا للقائها الأسبوعي، وأحيانا شبه اليومي.
ومنذ مطلع الألفية الثالثة تحديدا، عاد المقهى ليكون موئلا للمثقفين، من مثل مقهى "عمون" الذي كان ملتقى لمجموعة من الكتاب مثل مؤنس الرزاز وسميحة خريس وهاشم غرايبة وخالد الكركي ويحيى القيسي.
وأقيمت مقاهٍ جديدة على أنقاض مواقع ومبانٍ تراثية تم ترميمها وإضفاء جو من الدفء الحضاري والبعد التراثي عليها لتحقق للكتّاب والمثقفين والفنانين جوّا يتناسب مع خصوصيتهم ويناغي حنينهم إلى الماضي.
ومن أبرز هذه المقاهي: "جفرا" و"ركوة عرب" "ساقية الدراويش" التي تعتني بوضع صور لتاريخ المكان وأبرز رموز الحركة الثقافية والأدبية على جدرانها، مع مكتبة صغيرة توفر للزبائن خدمة المطالعة.
ونظراً لأن هذه المقاهي تجمع في تصميمها وديكورها وطبيعة أجوائها بين الماضي العريق والحاضر الذي نعيش، فقد غدت الوجهة المفضّلة للسيّاح والزائرين، هذا إلى جانب أنها تنظم وتستضيف فعاليات ثقافية وفنية كعروض المسرح، والموسيقى، والمعارض الفنية، والأمسيات الشعرية، وحفلات توقيع الكتب.
من جهة أخرى، لعبت المقاهي الثقافية في عمّان، وفي أحيائها القديمة على وجه الخصوص، دورا في تزويد المبدعين بأفكار للكتابة أو بشذرات منها، أو بحكايات تصلح كمادة للرسم كما فعل الفنان الأردني هاني علقم الذي كرّس أحد معارضه لرسم مشاهد مستوحاة من هذه المقاهي.ونشطت هذه المقاهي ثقافيا، ففي مقهى "جفرا" أحيى الفنان الملتزم كمال خليل حفلات غنائية، ووقّع الفنان السوري سميح شقير ديوانه الشعري "نجمة واحدة"، وقرأ الشاعر عز الدين مناصرة أشهر قصائده.وبعامّة، تفضّل الجماعات الإبداعية الشابة في الأردن مقاهيَ مثل "جدل" الذي يخصص فعالياته للفنون الحديثة والمعاصرة، و"فن وشاي" الذي نشط في أوساط الشباب وأطلق مسابقات تخصهم من بينها مسابقة للتصوير الفوتوغرافي، ومقهى "نقش" الذي أطلق مبادرات مجتمعية تهدف إلى تجميل المدينة وجعل الثقافة جزءا حاضرا في حياة المكان وساكنيه.