إن المؤمن يجـب أن يـكـون دائما بـين الخـوف والـرجـاء، الخـوف مـن الله لا مـن زيـد ولا مـن عـمـرو، فـبيـد الله مـقاليد الأمـور، يخـاف الله ولا يأمـن عـقابه وعـذابه، فإنه لا يأمـن مـكـر الله إلا الـقـوم الـكافـرون، والـرجاء في رحـمة الله القائـل: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الـزمـر ـ53).
فإذا المـؤمـن بالـفـرائض المـفـترضة عـليه ابتغـاء رضـا الله ورجاء فيما عند الله، لا فـيما عـنـد عـمـرو أو زيـد، وإذا تـرك المعاصي خـوفا مـن الله وحـده لا خـوفا من زيـد أو عـمـرو، فالـذي يـخشى الـرحـمن بالغـيب هـو المـؤمـن الحـقـيقي، الحـفـيظ الأواب، الـذي يخـشى الله حـيثما كان، يستشـعـر العـذاب فالله لا تخـفى عـليه خـافـية، قال تعالى: {ونعلم ما تـوسوس به نفـسه ونحـن أقرب إليه من حبل الـوريـد}.
قال تعالى : {وجـاء بـقـلب مـنيب} القـلب المـنيب هـو القـلـب السـليم الـذي قال الله تعالى فـيه: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشـعـراء 88 ـ 89)، سـليم من الإصـرار عـلى الكـفـر والمعاصي، سـليم من النفاق سـليم من الحـسـد والقـلب المنيب هـو الـرجـاع، لأن أناب بمعـنى رجـع، ومـنه قـوله تعالى:(وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ) (الـزمـر ـ 54).
فهـو يعـلم أننا نفـر مـنه أحـيانا، ونخـرج من طـريقه أحـيانا أخـرى، كالعـبـد الآبـق عـن سـيـده مـدة، ثـم يـرجـع إليه، كـذلك المـؤمـن قـد يـفـر بسبب إغـراء نفـس أو وسـواس شـيطان، ولـكـنه ينيب ولا يتمادى في غـيه، فـيا أيها الإنسان الضال أنـت عـبـد آبـق هـربت من ربـك فارجـع إلـيه، إذا هـربت مـنه في الصـباح فارجـع إليه في المساء، وإذا هـربت مـنه في المساء فارجـع إليه في الصباح لأنـك لما أذنـبت فـقـد خـرجـت مـن تحـت طاعـته، تلك هي الإنابة وهـذا هـو الـذي يجـيء بـقـلـب منـيب.
هـذه كلمات تـدل عـلى رحـمة له بـعـبده، وأنه يـقـبل تـوبة التائـبين، ويغفر لمذنبين والمستغـفـرين، فالله هـو الـذي خـلقـنا بـشرا لا مـلائكة، ويعـم أنه قـد نخـرج عـن طاعـته ونعـصيه، ولتذلك فـهـو يـريـد مـنا أن نستمسك بعـروته الـوثـقى، ونحتـفـظ بأوامـره ونـواهـيه، وإذا زلت أقـدامنا رجـعـنا، وإذا خـرجـنا عـن الطـريق عـدنا، حـتى إذا جـاء أجـلنا لا يأتينا إلا ونحـن مسـلمون، ولـذلك يـقـول الله تعالى: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (البقـرة ـ 132)، فإذا مـت أيها المسـلم عـلى الإسـلام فـمعـنى هـذا أنـك قـد استغـفـرت مـن جـميع ذنـوبـك ، وأديـت كل ما عـليـك، والعـبرة بحـسن الخاتمة، والمـقــدمات الحسنى تـوصـل إلى الخـاتمـة الحسنى.
وإذا قال الله تعالى: {هـذا ما تـوعـدون} فإنه ليس لجـميع الناس، فـليس كل مـن قال :(لا إله إلا الله محمد رسـول الله) يـدخـل هـنا، كـلا وإنما هـذا فـقـط: {لكل أواب حفيظ مـن خـشي الـرحـمن بالغـيب وجـاء بقـلب مـنيب}، فـعـلى الإنسان أن يحاسـب نفـسه هـل تتحـقـق فـيه هـذه الأوصـاف أولا.
قال الله تعالى: (ادخـلـوها بـسلام ذلك يـوم الخـلـود) (ق ـ 34)، يـقال لأصحـاب الجـنـة: {ادخـلـوها بسـلام}، والباء للمصاحـبة، يعـني: مصاحـبين بسـلام، سـلام الله تعالى، وسـلام الملائكة الـذين يـدخـلـون عـليهم مـن كل باب: (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) (الزمـر ـ 73)، وسـلام من جـميع الآفات والمخالفات فـلا جـوع ولا عـطـش، ولا مـرض ولا مـوت، ولا خـروج مـطـلـقا، لـقـد وصلـتم إلى دار الخـلـود فـما أطيبكـم! فادخـلـوها لا خـوف عـليكم ولا أنـتم تحـزنـون.
قال الله تعالى: {لهم ما يـشاءون فـيها ولـدينا مـزيـد} (ق ـ 35)، {لهـم ما يشاءون} لـقـد أعـد الله الجـنة للمتـقـين وجهـزها بـكل ما يشـاؤون وما يطـلـبـون، فـيها ما تشتهيه الأنفـس وتـلـذ الأعـين، مـن المـآكل اللـذيـذة والمشارب الطـيبة، والمناظـر الجـميلة، يـقـول الله تعالى بعــد هـذا:
{ولـدينا مـزيـد}، المزيـد مما لا يعـلمه أهـل الجـنة، ولا يخـطـر عـلى بالهـم فـيطـلبـونه، لأن المـرء يطـلب الشيء اللــذيـذ الطـيب الـذي يعـرفـه، ولـكـنه غـاب عـنه، أما الجـنة فـفـيها ما لا عـين ولا يخـطـر عـلى القـلـب، كما قـيـل: (فـيها ما لا عـين رأت ولا أذن سـمعـت، ولا خـطـر عـلى قـلب بشـر)، ولهـذا قال الله تعالى: {لهـم ما يشـاءون فـيها ولـدينا مـزيـد} يعـطي لهـم كل ما يتمنـون ويشـتهـون ولـدينا مـا نـزيـدهـم مـن غـير أن يطـلـبوه، لأنـهـم لا يعـرفــونه، وهـنا مكـمن النكـتة، فـيا تـرى لماذا قال:{ولـدينا مـزيـد}؟.
وهـذا نص الحـديث القـدسي، عـن رسـول الله (صلى الله عـليه وسـلم) قال: قال الله تبارك وتعالى: (أعـددت لعـبادي الصالحـين ما لا عـين رأت ولا أذن سـمعـت ولا خـطر عـلى قـلب بشـر) قال أبو هريرة اقـرءوا إن شـئتـم قـوله تعالى: (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (السـجـدة ـ 17).
ذلك لأن لله تعالى أعد من النعـيم ما لا يخـطـر عـلى بالهم حـتى يطـلبـوه، وأي فـضل أعـلى مـن هـذا، ولـقـد أخـفى الله تعالى عـنا هـذا المـزيـد، فـلا نتـكلـف في السـؤال عـنه، ويشبه هـذا ما قاله الله في سـورة يـونس : {للـذين أحسـنـوا الحسنى وزيادة} (الآية 26)، {الحسنى} هي: ما أعـده الله تعالى لـعـباده جـزاء لأعـمالهـم، بمقـاديـر معـلـومة وأنـواع معـينة، ولـكـن الـزيادة غـير معـلـومة.
وقـد فـسّر البعـض الـزيادة بعـشـر أمثالها، ولـكن هـذا منصوص عـليه في قـوله تعالى: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ..) (الأنـعـام ـ160)، وإذن: هـو شـيء مما لا نتصـوره ولا يخـطـر لنا عـلى بال، وأرى أن الآيـتين تفـسـر إحـداهـما الأخـرى، فـفي سـورة (ق) قال تعالى: (لهـم ما يشـاءون فـيها ولـدينا مـزيـد)، المـزيـد: هـو ما لا يخـطـر ببالهـم، ولا يعـرفـونه حتى يطـلـبـوه، قال الـذين يـعـتـقـدون رؤية الباري تعالى الله عـن ذلك عـلـوا كـبيرا إن المـزيـد هـو رؤيـة الله تعالى، ولـكـن مـن أين لهـم هـذا؟، وإن رووا بعـض أحـاديث عـن النبي (صلى الله عـليه وسـلم) في المـوضـوع، ولـكـننا لا نـراها تصح عـنه (صـلى الله عـليه وسـلم) ، وإن صحـت فهي مـؤولة، وقــد وصـف الله تعالى نفـسه بقـوله:(لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الأنعـام ـ 103) ، فالله تعالى قـال: {ولـديـنا مـزيـد} ولم يبينه، وأرى الخـوض في هـذا مـن التكلـف، فـدعـوا الأمـر لله فهـو أسـلم وأولى، فـلنـؤمـن بأن لله مـزيـدا، ولا نتـألى عـلى الله تعالى في تحـديـد أو تعـين هـذا المـزيـد، لأنه من فـضـول الـكلام.
قال الله تعالى: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) (ق ـ 36)، فـبعـد أن ذكـر الله تعالى لنا بعـض الأقـوام الـذين كـذبـوا رسـلهـم ، وما لاقـوه مـن عـذاب جـزاء كـفـرهـم ، فـقال الله: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ، وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ ، وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ)(ق 12 ـ 14).
وبـعـد أن ذكـر بالنار ووعـيـدها، وبالجـنة ونعـيمها، وذكـر أنه يمـلأ جـهـنم بالكـافـرين، ويـقـرب الجـنة للمـتـقـين، وبعـد أن ذكـر أوصاف الـذين يستحـقـون دخـول الجـنة بفـضـله وكـرمه، عـاد فـذكـرنا بالـذين كانـوا قــبـلـنا ، فـقال تعالى: {وكـم أهـلكـنا قـبـلهـم من قـرن}، قـبـل قـريـش الـذين بعـث إليهـم النبي (صـلى الله عـليه وسـلم) وكـذبـوه وكـفـروا به.
قال الله تعالى: {هـم أشـد منهـم بـطـشا}، هـم أشـد من قـومـك يا محمـد بطـشا ، وأقـوى منهـم أبـدانا، وأطـول مـنهـم أعـمارا، وأقـوى منهـم أجساما، وأكـثـر منهـم للأرض إعـمارا، لـقـد عـمـروا الأرض أكـثـر مما عـمـرها قـومـك، وخـلدوا آثـارا لا تـزال قـائمـة شـاهـد عـلى قـوة أولـئـك الـقـوم إلى اليـوم، لم يسـتطـع أهـل هـذا العـصر الإتـيان بمثـلها، عـلى تـقـدم العـلم والصـناعـة.
.. وللحـديث بقـية إن شـاء الله ،،،

ناصر بن محمد الزيدي