[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/zohair.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]زهير ماجد [/author]
يستيقظ بي الحنين الى قراءة جيل صغير من جديد، وهو مالم نعره بعد اي اهتمام..
استمعت الى بعض منهم، وخصوصا الموهوبين، فراقني كثيرا ان اكتشف اصواتا من الغناء لم اسمع مثيلا لها حتى عند المحترفين الكبار..
فأين يختبيء مثل هؤلاء، في البيوت ام في المدارس ام يبعدهم الأهل عن ممارسة مواهبهم التي تفيض جمالا صوتيا لاحدود له، وهم يغنون اصعب الألحان الشرقية.
ولم تكن تلك وحدها ماراقني سماعه، فقد اكتشفت شجاعة هذا الجيل الصغير الذي يصعد وينمو قربنا ولا نحس به، نظنه صغيرا لكنه يشعر بكل ما حواليه ويفهم ويدرك، فاذا هو اكبر من سنه، إجاباته مدروسة وكلماته منتقاة وليس هنالك فراغ في الشخصية التي تبدو ممتلئة بحب اكتشاف العالم فتراها مشبعة بما تعيشه عربيا..
حتى ان حفيدا لجار لنا لم يتجاوز عمره سبع سنوات سمعته وهو يتحدث هلعا عن " داعش " وبكلام منطقي الى ابعد الحدود..
اما اولئك الذين تسنى لي سماع حواراتهم وهم بين التاسعة والرابعة عشرة فكنت لا أصدق ما اسمع، الى ان صدقت بالفعل اننا لم ننتبه بعد الى جيل يشرب من واقعنا اكثر مما نشرب، جيل متأثر بما يجري في عالمنا وليس علينا سوى ان نستنطقه، فاذا به على استيعاب تام وله فهمه الخاص الذي يتجاوزنا احيانا.
لاشك ان هنالك مسافة كبيرة بين الأجيال، كل جيل هو شعب جديد كما نعرف، ولأنه كذلك فهو ابن مرحلته، " فأولادكم ليسوا لكم " كما كان يقول جبران خليل جبران مضيفا انهم ابناء الحياة..
كلمة حق قالها منذ مائة سنة تقريبا كانت اكتشافا عظيما لما يبذره الانسان في الارض من اجيال تتوالد ويحمل كل منها خصائص مرحلته وعناوينها.
فما اجمل من ان يكون لنا جيل منفتح بهذه الطريقة التي تشبه السحر، وتراه مختبئا في البيوت، منهم من لديه موهبة متقدمة ولا ينتبه الاهل له، ومنهم من متفوق بمادة من المواد ولا تنتبه له مدرسته ولسوف نخسره عندما يتخصص كبيرا، ستناله الجامعات الأجنبية وتتمسك به ولن تتركه وان حاول التملص فقد يقتلونه كما فعلوا مع كثير من نوابغنا العربية امثال حسن كامل الصباح ورمال رمال وغيرهما الكثير ممن تضيق به مجالات القول كي لايعود ليفيد مجتمعه وأمته.
اكثر دول العالم اهتماما بأطفالها كان السوفيات عندما انشأوا منظمة الكومسمول التي هي مصدر تخريج شيوعيين، وهي منظمة ترعى الاطفال وتتعامل مع كل واحد منهم حسب ميوله العلمية او الفنية او الادبية..
ولان حاكم الاتحاد السوفياتي في ذلك الوقت عالم رياضي ولغوي وهو جوزيف ستالين، فقد اهتم بالعلم وبنى مفاهيمها به، فاتبع اسلوب الانتقاء حسب ميول الطفل، بان يوضع الأطفال المميزون بمادة معينة كالفيزياء والكيمياء او علم الهندسة والبيولوجيا وغيره كل مجموع مع بعضه البعض وبذلك يتم تنمية تلك المجموعة التي سوف يكون لها باع في اختصاصها، ولهذا صعد السوفيات سريعا في العلوم وخصوصا في علم الفضاء.
يقول علم الطفل ان كثيرين تظهر عليهم المواهب في عمر صغير فاذا تم احتضانهم ومواكبتهم في ميولهم انتجوا ماهو منتظر منهم، والا فإن الطفل قد تضيع موهبته اذا لم يجد الرعاية الكافية، او عاش في منزل مضطرب، او كان له رفاق سوء.
لابد بالتالي من الأهل الذين لهم كل الدالة على اطفالهم ان يلعبوا هذ الدور الاستثنائي، وهو لايحتاج سوى لرعاية فيها الصبر على ابنهم وتقوية اندفاعاته واحتضانه وتهيئة الظروف الملائمة لكي يتمكن عقله من انتاج معرفة بحجمه، ثم المدرسة الجيدة، واختيار الرفاق.
جميعنا ولدنا من اب وام، وكانت لنا عائلة كبيرة او قليلة العدد، وذهبنا الى المدارس ثم الى التخصصات التي يريدها الأهل احيانا، لاسباب اجتماعية، فاذا بنا في مرحلة متقدمة من العمر نكتشف انه كانت لنا موهبة لم تعزز قتلها الاهل والمجتمع في آن واحد..
لم ينتبه هؤلاء الى مانحمله في دواخلنا، مع ان موهبة الطفل تبدو دائما في تصرفاته وفي اهتمامه وفي ميوله، هو لايخبيء، لايعرف التحايل كي يخبيء مالديه من اهتمام..
في مرحلة ما كل الاطفال يرسمون، لكن واحدا او اكثر قد لايتجاوز عدد اصابع اليد الواحدة يكملون موهبتهم الفنية فيتخصصون بها او يمارسونها دون تخصص لكنها تبقى معهم ابد الدهر..
كما انه بات معروفا ان عددا لا باس به من مرحلة الفتوة يكتبون الشعر مثلا وهو عبارة عن احاسيس ذاتية، منهم من يبشر بشاعر يختبيء بداخله، والاكثرية ترمي اوراقها تلك بعد حين لتذهب الى عملها ووظيفتها الروتينية، في حين يبقى الشاعر شاعرا طوال عمره بعدما يعزز موهبته بثقافة منوعة.
اهمية الطفولة اذن انها التاريخ المزدحم للكبار، بل هم الكبار الذين يجعلون من اهاليهم خدما في سبيلهم.
لا اعتقد ان آباء وامهات لايهتمون بأطفالهم، جميعنا فكرنا بأن اطفالنا يجب ان يكونوا افضل منا، ان ينالوا ماتمنيناه ولم نصله، ان يحصلوا على الافضل فالافضل في كل شيء، ان نعطيهم مانستطيع وان نقدم لهم الغالي والنفيس وان نحلم بهم وهم في مرحلة الكبار في مواقع مهمة..
وبهذا نتحول نحن الى صغار بخدمتهم، ألم يقل احد الكتاب الفرنسيين ان الطفل ابو الرجل، لعله كذلك اذا فهمنا المعادلة الفلسفية للطفولة، وكيف تبني تاريخها بجدارة الى ان تنمو دون ان ننتبه فاذا بها شابة لها عالمها الذي اختطه احيانا بانتباهنا واحيانا خارجه.
اذا اخذنا عينات من العباقرة الذين مروا في التاريخ الانساني، سنجد ان لكل منهم طفولة مختلفة لكنهم جميعا يشتركون بوجود ميول محددة.
كان اديسون مخترع المصباح الكهربائي بائع جرائد، ويقال ان انشتاين لم تكن تظهر عليه علامات النبوغ مع انه غير معادلات، اما حسن كامل الصباح فكان اهتمامه بالشمس منذ طفولته فما ان تخصص في اميركا في العشرينات من القرن الماضي حتى وضع فكرة عرضها على ملك العراق فيصل آنذاك بالحصول على الطاقة الكهربائية من الشمس لكن خزينة الدولة العراقية آنذاك لم تكن قادرة على تكاليف هذا المشروع..
ويقال ان العبقري المصري سيد درويش كان يلتفت الى مصدر الموسيقى تاركا ثدي امه ويرفض الرضاعة طالما لم تقف الموسيقى فاذا به مجدد في الموسيقى في مرحلة كبره وفي زمانه..
وكذلك هو الحال مع الموسيقى العالمي موتسارت ( موزار ) الذي بدأ العزف وله من العمر ثلاث سنوات...
لعلنا تحدثنا عن اطفال عباقرة، هؤلاء لهم التمايز، لكن الطفولة عموما صندوق تختبيء فيه مايسر وما لايسر..
فاذا عرفنا كيفية التلاؤم معهم اوصلناهم الى مبتغاهم وحققنا لهم ما لن يندموا عليه في مرحلة الكبر..
اذ ان اكثرنا يصيبه الندم في عمر معين بعدما يتذكر انه كان مجليا في مادة معينة ولم يتسن له ان يتابعها لاسباب ما.
لايكفي ان نستعمل الكلمات الممجوجة " اطفالنا اكبادنا " او ان " الطفل رجل المستقبل " وغيره من تلك الجمل الرنانة التي باتت مألوفة اجتماعيا، بل هنالك ماهو مطلوب من كل بيت ان يكون راعيا حقيقيا لاطفاله، فمن هذه الخلية البيتية تبدأ حقيقة الطفل ويبدأ عمره وبها ينتهي.
انها مكان التكوين وهي العالم بالنسبة اليه، لايكفي ان نرفع تلك الشعارات ونعتبر انفسنا مسؤولين عن حياة جيل بل اجيال..
كل منا على معرفة وثيقة بأنه المربي شاء ام أبى..
كان كبار القوم يختارون لأبنائهم مربية تشرف عليه وتعلمه الحياة فاذا به يصبح على شاكلتها ثم يتعلق بها اكثر من امه وابيه، الا الاسكندر الكبير فقد تعلق بأمه وظل يواكبها في كل صغيرة وكبيرة الى ان قتله المرض.
وهنا نفتح قوسين لنتحدث عن دور الأم تحديدا في خلق اجيال لها عالمها المتقدم ولها اخلاقها المحددة، وهي بالتالي " مدرسة اذا اعددتها اعددت شعبا طيب الاعراق "، مامن مجتمع يولد فيه الانسان كبيرا بحجمه الرجولي، جميعنا نولد بطريقة واحدة، بصرخة محددة، عراة من اي شيء، حاملين اسرار زمن سوف يكون لنا لاحقا من خلال ماسيلحقنا من تربية، ومع ذلك يختط الطفل طريقه بأسلوبه الخاص ليدون تجاوزا لعالم اهله..
مثلا جيلنا الكبير امي في التكنولوجيا المعلوماتية او في الاتصالات، فيما الجيل الحالي يبدأ به منذ نعومة اظفاره..
لكل مرحلة اسلوبها واكسسواراتها ومنطقها وعلمها..
كانت مدارس الاوائل بيتا من القش ومعلما لايعرف من العلم الا قليلا يحمل عصا وامامه عدد من الطلاب يأمر فيطاع، ثم اكتشف الانسان حاجته للعلم الذي طور به حياته لاحقا..
لولا هذا العلم الذي تواتر الينا من خلال علماء رحلوا لنكمل ماوصلوا اليه، لما نصل اليوم الى الدهشة التي تصيبنا ونحن نتحدث مثلا بالهاتف النقال الذي يصلنا بكل العالم بل ان مخترعيه صنعوا منه عالما متكاملا بل مكتبا متنقلا نحمله اينما رحلنا.
انها الطفولة التي اعادت انتباهي الى ان عالما جديدا اسمه جيل صغير موجود بيننا لم ننتبه اليه بعد في زحمة انشغالاتنا بمآسي منطقتنا ومشاكلها..
فهو بالتالي جيل الأزمات، ويبدو انه شربها حتى الثمالة بمعزل عنا. فهو يسمع مانسمع، يتابع حواراتنا سواء في التلفاز او بين الاهل والاصدقاء، لكنه بالتأكيد جيل متفتح اكثر منا لأنه يبدأ حياته بأدوات متقدمة وبعالم متقدم وبأسلوب حياة مختلفة عما تربينا به.
الانتباه لهذا الجيل يعني وضعه على سكة السلامة قبل ان تستفزه افكار هدامة فيتعلق بها.
من حق هذا الجيل علينا ان نساهم في تكوين شخصيته كما يريدها هو وليس كما نريدها نحن..
من هنا تصبح موهبته اساسية بل مصدر حياته، فاذا عرفناها دخلنا معه في شراكة مصيره بل في تأسيسها السليم والصحيح.
لابد منا من اجل اطفال لايكفي ان يذهبوا الى مدارسهم، بقدر ما أن نكون نحن مدرستهم الاولى والاساسية، ان يكون بيتنا مصدر عشقهم للحياة او ربما مصدر تفلتهم منها.