بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين , موضوع المبهمات قلّ الناظرين فيه وهمّ الشاغلين فيه فنجد المؤلفات فيه قليلة والجهد فيه كبير , وسوف نتحدث أن شاء الله عنه هنا باختصار مفيد غير مخلَّ ولا مكلّ.
البحث عن المبهم هو مفيد لتعلقه بكلام الله والأصل في مشروعية البحث عن المبهم أو أصل علم المبهمات هو حديث ابْنَ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ قال:(مَكَثْتُ سَنَةً أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ عَنْ آيَةٍ، فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَسْأَلَهُ هَيْبَةً لَهُ، حَتَّى خَرَجَ حَاجًّا فَخَرَجْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا رَجَعْنَا وَكُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ عَدَلَ إِلَى الأَرَاكِ لِحَاجَةٍ لَهُ، قَالَ: فَوَقَفْتُ لَهُ حَتَّى فَرَغَ ثُمَّ سِرْتُ مَعَهُ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ مَنِ اللَّتَانِ تَظَاهَرَتَا عَلَى النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) مِنْ أَزْوَاجِهِ؟ فَقَالَ: تِلْكَ حَفْصَةُ وَعَائِشَةُ).
ووجه الاستدلال أن ابن عباس حرص سنة كاملة للبحث حتى يعرف اسم مبهًم , ولم ينكر أحد من الصحابة عليه ذلك فصار منهم إجماعاً سكوتياً وهكذا درج عليه التابعون وتابعو التابعون والمسلمون حتى يومنا هذا.
وهذا العلم يجب أن يتحلّى به المفسر لما فيه من فوائد تفسيرية وحكم بلاغية وبيان نواح إعجازية كما سنعرف ذلك إن شاء الله, وهو يضفي سعادة على النفس التي تتوّق إلى معرفة المجهول فبمعرفتها المجهول تُشْبِع حاجتها وغريزتها الفطرية فتنبسط, وعلى أيٍ فإن علم المبهمات يعين على تدبر القرآن وفهمه, لكن للقرطبي رأي آخر حين قال:(علم إذا عُلِم لم ينفع العالم به وإن جهله جاهل لم يضره جهله به) فماذا سنستفيد مثلاً من معرفة أسماء أصحاب الكهف فإنه لا يترتب عليه حكم ولا إيمان, ولذلك فهذا العلم ليس ضروري للمفسر كما قيل وإنما من فضول العلم به نكت بلاغية, والله أعلم.
وتنقسم المبهمات باعتبار حكمها الشرعي في البحث عنها إلى قسمين هما:
1ـ مبهمات لا يجوز البحث عنها وهو ما اختص الله تعالى بعلمه دون خلقه فهو من الغيب, مثاله: قوله تعالى:(وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ)(الأنفال ـ 60), قال الزركشي في (البرهان):(والعجب ممن تجرأ و قال: إنهم قريظة، أو من الجن)، قال السيوطي ما معناه: إن المنهي في البحث عنه هنا هو معرفة أعيانهم لا أجناسهم فلا بأس من تعيين أجناسهم بالقول بأنهم بنو قريظة أو جن.
2ـ مبهمات يجوز البحث عنها فهي ليست غيباً لكن بشرط أن تُعرًف بالطرق الصحيحة وهو النقل المحض, الذي يتمثل بنقل القرآن الكريم أو السنة الصحيحة الثابتة أو أقوال الصحابة المعاصرين لأحوال الوحي أو التابعين الذين حملوا العلم عنهم.
والقاعدة تقول: علم المبهمات يُعلًم بالنقل لا بالاجتهاد.
وهناك مظانُّ توجد فيها المبهمات وهي كتب التفاسير بالمأثور وكتب السنة وأسباب النزول والمؤلفات المتخصصة في علم المبهمات.
وللإبهام في القرآن أساليب عدة فقد يأتي المبهَم:
1ـ اسم الإشارة، كما في قوله تعالى:(وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ)(البقرة ـ 35).
2ـ ألفاظ العموم، نحو جمع التكسير(رجال) في قوله تعالى:(رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ)(النور ـ 37).
3ـ أقارب الشخص كالأب والأخ، مثاله:(وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ)(هود ـ 42).
4ـ اسم الوصول، نحو قوله تعالى:(وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ)(التوبة ـ 61)
5ـ الصفة، نحو قوله تعالى:(وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ)(الأعراف ـ 145).
6 ـ العدد، نحو قوله تعالى:(وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا)(التوبة ـ 118), وعينتهم السيرة النبوية وهم :كعب بن مالك الشاعر، وهلال بن أمية الواقفي الذي نزلت فيه آية اللعان، ومرارة بن الربيع العامري.
7ـ المكان: نحو قوله تعالى:(أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا)(النساء ـ 75).
8ـ فاعل يسألونك, كما في قوله تعالى:(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا)(طه ـ105).
9ـ فاعل قال, كما في قوله سبحانه:(وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)(آل عمران).
10 ـ الزمان، كما في قوله تعالى:(قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ)(المائدة ـ 26) فأُبهِم بداية ونهاية أربعين سنة وما تأريخها.
11ـ اسم استفهام، كما في قوله تعالى:(فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ)(النمل ـ35).
12ـ اسم شرط، كما في قوله تعالى:(مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ)(الأعراف ـ 132).
13ـ كم الخبرية، كما في قوله تعالى:(كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ)(البقرة ـ 211).
14 ـ ما التعجبية، كما في قوله تعالى :(قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ)(عبس ـ 17) أي: أتعجب من شيء أكفر الإنسانَ.
.. وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.

علي بن سالم الرواحي