" رواية نبض " خطوة أولى في مسيرة الشعر الطويلة ، يخطوها الشاعر على الراسبي ، حيث يكتب ذات توقيع فرح ، وبهجة عارمة " رواية نبض خطوتي الأولى " . مجموعة شعرية جاءت في ثماني وستين صفحة من الحجم المتوسط ، على ورق صقيل ، صممت غلافها الفنانة هدى حمد الكيتانية ، ويهدي الشاعر مجموعته في لمسة وفاء وعرفان إلى من حملته وهنا على وهن ، وعلمته ابجديات الحياة .بينما يصدر الشاعر مجموعته ببيت شعر لناصر الغيلاني يقول :

الشعر حاجة ضامي الماي للماي
والشعر حرِ حر واحساس موزون

ما يحيلنا الى نقطتين على قدر من الأهمية :

الاولى : ان الشاعر يؤسس لمرجعية عمانية تتمثل في الشاعر ناصر الغيلاني ، الشاعر الذي اثرى الساحة بجميله وعطائه وتدفقه ، في اشارة واعية الى تواصل الاجيال وتتابعها من حملة مشعل الشعر ورسالته فـ " الشاعر الذي يشرع في قوله دون اتكاء على ما بناه الآخرون سرعان ما يبدو وكأنه يتكلم بلغة غير مفهومة"(1). يظهر هذا بجلاء في قصيدة " خطوة التصميم " (2) التي يجاري فيها قصيدة " بنت الفراهيدي " للشاعر بدر الشحيمي ، عندما يقول ، بلا مواربة ، وبتقريرية أشبه ما تكون بالرسالة :

انا استاذي " ابو ناصر " وكل من يعتلي النبراس
أحاول أكمل المشوار وأسابق خطوة التصميم

ويقول في ذات القصيدة ، معتزا بجنديته في طابور الشاعر الشحيمي ، وتتلمذه وتعلمه على يديه :

ترى " بدر " البدر ينوي يبدد عتمة الوسواس
وأنا من ضمن طابوره وجندي أقبل التعليم

الثانية : إن الشاعر يضع تعريفا للشعر من زاوية نظره الخاصة ، وأرضية صلبة يقف عليها وموطئ قدم يبدأ منه خطوته الأولى، التي بلا شك سوف تعقبها خطوات وخطوات .
فالشاعر لا يتعاطى مع الشعر كشيء كمالي ، أو كترف زائد وفائض عن الحاجة ، بل يحتاج اليه " حاجة ضامي الماي للماي " ، يحتاج اليه كضرورة من ضروريات الحياة ، حيث لا غنى للشاعر عن الشعر ، انه المتنفس الوحيد ، انه معادل الحياة ، انه الماء .
يختار الراسبي " رواية نبض " عنوانا لمجموعته / خطوته الأولى ، وهو عنوان لاحد النصوص التي يضمها الكتاب بين دفتيه ، ولا يخفى على قارئ أن الرواية جنس كتابي ، يزداد كل يوم وآخر مقروئية ورواجا ، وهو بهذا أخذ يسحب ـ أن لم يكن ـ البساط شيئا فشيئا من تحت أقدام القصيدة ، ما جعل النقاد يعتبرون هذا الزمن زمنا للرواية بامتياز .
وبعدما كان الشعر ديوانا للعرب قديما جاءت الرواية لتمسك بزمام الريادة ، بما أوتيت من امكانيات ومساحات وحرية ، وبما لها من مقدرة على هضم كل الاجناس الادبية الاخرى ، من شعر ، ورسالة ، وخاطرة ، وسيرة ، وفلسفة ، وتاريخ وجغرافيا ، وسياسة ، واقتصاد ، ومسرح ، وغيرة ، مفسحة للقول والحكي المدى على اتساعه ورحابته وامتداده .
يقول أو يختار: رواية ، هذا اللون الأدبي الرائج ، الذي قلص من كاريزمية الشعر وحضوره ، وجاء ليبتزه مكانته التاريخية والطاغية والمكتسبة عبر أزمان خلت ، في عقر داره .. يقول أو يختار عنوانا : رواية نبض ، ولم يقل قصيدة نبض ؟!! يضيف نبضه للرواية لا للقصيدة ، بالرغم من أنه يضع بين يدي القارئ ديوان شعر وليس رواية !
وبالرغم من ان مفردة من قبيل القصيدة وقصيدة وقصيدي وقصايد والقصايد تكررت في النبض بكثرة ( القصيدة تكررت 6 مرات – قصيدة تكررت 3 مرات – قصيدي تكررت مرتين - القصائد مرة واحدة – وقصائد مرة واحدة ) وكلمة الشعر ومشتقاتها نجدها تكرر نفسها ثمانيا وعشرين مرة ، وكلمة ابيات ( ي – هـ ) تطالعنا مرتين ، والقوافي تظهر ثلاث مرات .
بالمقابل لا تتكرر مفردة رواية المضافة الى نبض ( التي تكررت هي أيضا ثلاث عشرة مرة ) ، في عنوان المجموعة ، سوى مرتين فقط ، والفعل روى مرة واحدة ، وثمة كلمات ترتبط بفن الرواية ارتباطا وثيقا كبطل وقاص ، كل منها يتكرر مرة واحدة .
أضف الى ذلك أن كلمة شاعر ( نكرة ومعرفة ) نصادفها على مدار صفحات المجموعة احدى عشرة مرة ، بينما لا نعثر لمفردة راوي سوى في صورة ضمير الغائب ( هو ) في الفعل الماضي ( رواها ) ومرة واحدة ليس الا .
عطفا على أن المجموعة تحفل بذكر أسماء شعراء كثر : جميل ، كثيّر ، عنتر ( مرتان ) ، قيس بن الملوح ، حاتم ، طرفة ، أمرؤ القيس ، ابو فراس ، شوقي ، حافظ ابراهيم ، ابن عديم ، ابو فراس ، ابن أبي سلمى ، ابن حلزّة ، ابو ناصر ، بدر . بينما لا يرد ذكر أي راو وقاص !!
وأقول : لعله ، وهو ليس، أي الشاعر ، ببعيد عما حققته الرواية من اكتساح لاسهم الشعر، اذا ما استخدمنا لغة الأسواق المالية ، أقول : لعله أراد لنبضه أن يحظى بدرجة عالية من المقروئية والانتشار ، وبهالة كبيرة من الاهتمام والطلب تيمنا بالرواية وعلى غرارها .
ولعلنا للسبب ذاته نجد أن الشاعر يكتب قصيدة متخففة ، غير مغرقة في التخييل واللغة والصورة الشعرية ، تحاول أن تصل الى مبتغاها عبر أقصر الطرق .
قصيدة في متناول القارئ العادي ، تأخذه من يده وتضعه بمواجهة المعنى ، لا تتعبه ، لا ترهقه ، ولا تتعالى عليه .
أجل ، أجل ، انها لا تتعامل معه بفوقية ، ولا تريد له أن يقف مطرقا ، متبعثرا ، وبلا بوصلة ، على مفترق طرق ، ويرجّح بين احتمالات كثيرة ، وتأويلات عديدة ، ويكتوي بجمرة الغامض والملتبس .
انه الباحث عن اليقين ، ويرفض ان يتاجر سوى باليقين ، ولعل اليقين هنا معادلا للصدق والوضوح :

على نار الغلا ساهر اناظر طيفك الجذاب
يساور نظرتي طيفك يقين في سما ذاتي

وهو هنا يقنص المعنى ، ويحبس أنفاسه ( المعنى ) كباز ، ليعالجه في معمله الشعري ، وينثره وردا على من يحب ، او بالأحرى قارئه الأثير والمفترض والضمني :

فيني باز الفكر يرحل يحبس انفاس الطريدة
يقنص المعنى ويرفرف ينثره بأعلى كتوفك

ويشعل فتيلة سراج الفكرة والمعنى ، ويرنو الى نجمته :

غديتي فكرة الشاعر وهو لسراجها يضوي
وغديتي نجمة بعيني وغديتي لي أمل دنياي

وهنا بطلا لرواية القلب ، الذي أضناه الشوق وعذبه الفراق :

وشوفي حالتي تكفين لسان الحال لك يروي
رواية نبضها قلبك بطلها شاعر باقصاي

وهنا الشعر ، بمعوله ، يهدم كل ما يشيده الشك والالتباس والغموض من أسوار ليبني على أنقاضها يقينا وصدقا :

ودي شعاع الشعر يضوي بدنياك
يهدم بقايا الشك ويبني يقينك

وهنا يكتف الغامض من المعنى ، كمشبوه ، ويعلي من شأن الترنيم والغناء العذب ، لم لا وهو البلبل المغرد " يغرد داخلي بلبل " :

وأنا توي نحت الدرب وفاسي مرهف من ماس
أكتف غامض المعنى وأسرح حالي الترنيم

إن الشاعر على الراسبي مسكون بالمعنى ( المعنى تكرر أربع مرات والمعاني ثلاث مرات ) ومهووس باقتفاء دروبه الوعرة بلا كلل ولا هوادة يسعى جاهدا لاقتناصه بمهارة صياد حاذق ، ومتمرس . ويسعى جاهدا لإيصال المعنى من أقصر الطرق فهو " يرفض التعتيم " رفضا قاطعا ، لا يعرف المساومة .
ورواية نبض خطوة أولى ، تحمل رؤيتها بوضوح ، وتشعل سراجها لتبدد الغموض والالتباس ، من أجل قصيدة لا ترهق قارئها ولا تبلبله ، قصيدة تسعى وراء المقروئية والانتشار والوصول .