بماذا يمكن أن نتذكر محمود عباس العقاد حين تحل ذكرى رحيله الخمسين يوم 12 مارس ؟ لا شيء يمكن أن يسقط من الذاكرة من تفاصيل رحلة هذا المفكر الممتدة لما يقرب من 75 عاما والمتجذرة في كافة نواحي الثقافة والفكر والأدب والسياسة، ولا أدري هل يغضب تلاميذه ومريدوه القول بأن علاقاته بالآخر كانت سلسلة متوالية من العواصف التي تهب من تكوينه الإنساني الجاف، لتتحول إلى معارك إن كان منبتها فكريا وسياسيا فمنتهاها أحيانا خصومة إنسانية ؟
وما كان قويا صارما، فقط مع الآخر، بل مع نفسه، فحين اضطرته ظروفه الاجتماعية القاسية أن يصبح ترسا في الجهاز الإداري للدولة عبر وظائف صغيرة تعينه قروشها القليلة على توفير غذائه الروحي أولا وعاشرا قبل غذاء المعدة، حيث كان معظم دخله ينفقه على شراء الكتب والمراجع، إلا أن وظائف الدولة أدار لها ظهره رغم حاجته الملحة لها، فهاجم الوظيفة الحكومية بقسوة حين كتب: إن نفوري من الوظيفة الحكومية في مثل ذلك العهد الذي يقدسها كان من السوابق التي اغتبط بها وأحمد الله عليها، فلا أنسى حتى اليوم أنني تلقيت خبر قبولي في الوظيفة الأولى التي أكرهتني الظروف على طلبها كأنني أتلقى خبر الحكم بالسجن أو الأسر والعبودية، إذ كنت أؤمن كل الإيمان بأن الموظف رقيق القرن العشرين". واتجه إلى العمل بالصحافة مستعينا بثقافته وسعة اطلاعه، فاشترك مع محمد فريد وجدي في إصدار صحيفة الدستور ، لكن الصحيفة سرعان ما تعثرت ، لتتوقف عن الصدور فيضطر العقاد إلى إعطاء الدروس الخصوصية ليواجه ظروف الحياة القاسية ،
إلا أن معاركه الأدبية تبقى هي الأكثر نضارة في حقول الذاكرة الجمعية العربية ، ومن أشهر معاركه تلك التي خاضها مع مصطفى الرافعي و أمير الشعراء أحمد شوقي ، وعميد الأدب العربي طه حسين ، وبنت الشاطيء الدكتورة عائشة عبد الرحمن ، والمفكر العراقي الدكتور مصطفى جواد ، وإلفه في مدرسة الديوان الشعرية عبد الرحمن شكري ،
أما معركته مع الرافعي فيحكي الأديب محمد سعيد العريان شيئا من تفاصيلها في كتابه "حياة الرافعي " ، حيث يرى أن
ابتداء الخصام بين الرافعي والعقاد كان بسبب كتاب الرافعي "إعجاز القرآن والبلاغة النبوية" الذي صدرت طبعته الأولى سنة 1912م
، ثم أمر الملك فؤاد ملك مصر بطبعه على نفقته تقديرا للكتاب ولصاحبه، وقد صدرت هذه الطبعة الملكية سنة 1928م.
ويضيف العُريان أنه لم يكن بين الرجلين – يقصد العقاد والرافعي - قبل صدور الطبعة الملكية من الكتاب إلا الصفاء والوُدُّ.
ولاقى "إعجاز القرآن" قبولا كبيرا من الأدباء والنقاد، ونال به الرافعي مكانة سامية بينهم، حتى كتب في تقريظه والثناء عليه زعيم مصر سعد زغلول كلمته الذائعة السيّارة:
"وأيَّدَ (كتاب الرافعي) بلاغة القرآن وإعجازه بأدلة مشتقة من أسرارها، في بيان يستمد من روحها، بيان كأنه تنزيل من التنزيل، أو قبس من نور الذكر الحكيم"".
ويلتقي الرافعي العقاد في مقر مجلة المقتطف، سنة 1929، ويسأله عن رأيه في كتابه، فيفْجَؤُه العقاد برأي شديد، فيه قسوة وغلظة يسفه فيه كتابه، ولم يكتف بذلك حتى اتهم الرافعي بتزوير تقريظ سعد زغلول ونحله إياه؛ دعاية للكتاب وترويجا له
غضب الرافعيُّ من افتراءات العقاد أشد الغضب، وحَنِقَ عليه كل الحنق، وكتم نفسه على مثل البركان يوشك أن يثور.
هذاما يقوله العريان في كتابه، لكن هذا الذي
يراه بداية للخصومة بين العقاد والرافعي لايراه مؤرخو الأدب كذلك ، حيث ثمة معركة سابقة على تلك المعركة نشبت عام 1914 حين
نشر العقاد مقالة في صحيفة المؤيد عنوانها "فائدة من أفكوهة " تعليقا على ماجاء في الجزء الأول من كتاب الرافعي "تاريخ آداب العرب"،، حيث قال العقاد في مقالته : "فإن شاء عددنا كتابه كتاب أدب، ولكنا لا نعده كتابا في تاريخ الأدب؛ لأن البحث في هذا الفن متطلب من المنطق والزَّكانة ومعرفة النُّطق الباطني ما يتطلبه الرافعي من نفسه ولا يجده في استعداده
وفي سنة 1920 نشر الرافعيُّ نقدا لنشيد أمير الشعراء أحمد شوقي الذي مطلعُه:

بني مصر مكانكم تهيَّا *** فهيا مهدوا للمُلك هيا
فتصدى له العقاد سنة 1921م بمقالة نشرها في الجزء الثاني من "الديوان في الأدب والنقد" بعنوان" (ما هذا يا أبا عمرو؟!"، حيث اتهمه بسرقة ما كتبه في الجزء الأول من "الديوان" في نقد نشيد شوقي آنف الذكر، ويرى الكثيرون أن العقاد تجاوز في نقده القاسي ما كتب إلى من كتب ، حيث اتصفت عباراته بالسخرية اللاذعة، والهجوم العنيف على شخص الرافعي ذاته،
وكان الرد من قبل الرافعي أيضا عنيفا قاسيا ، حيث جاء في كتابه


" علي السفود" قائلا:"أما اللغة فهو من أجهل الناس بها وبعلومها – وهو بالطبع يعني العقاد - وقلّما تخلو مقالة له من لحن، وأسلوبه الكتابي أحمق مثله، فهو مضطرب مختل، لا بلاغة فيه، وليست له قيمة، والعقاد يقر بذلك، ولكنه يعلله بأنه لا يريد غيره، فنفهم نحن أنه لا يمكنه غيره فهو مترجم ناقل، وأحسن ما يكتبه هو أحسن ما يسرقه، كأن اللغة الإنجليزية عنده ليست لغة، ولكنها مفاتيح كتب، وآلات سرقة." !
خلاف بين تيارين
أما معركة العقاد مع أمير الشعراء أحمد شوقي فهي أيضا انطوت على قدر كبير من القسوة حتى أنه يكاد يخلع عنه ليس فقط إمارة الشعر ، بل جنسية جمهورية الشعر حين قال في الجزء الأول من كتاب الديوان "«فإذا كانت ثمة أمارة كذابة» في الدنيا فهي أمارة هذا الذي لا يكفيه أن يعد شاعراً حتى - يعد أمير شعراء وحتى يقال "إنه عنوان الأسمى ما تسمو إليه النفس المصرية من الشعور بالحياة» ألا ليت ناظمنا قد سلمت له شاعرية الحس في هذه الابيات فيكون له بها بعض الغنى عن شاعرية النفس والروح!»

ويقدم الدكتور عبد العظيم حنفي في دراسته "أحمد شوقي والعقاد ، معارك نقدية ومقاربات فكرية " والتي نشرت بمجلة الرافد – عدد أغسطس 2013 تفسيرا للمعركة النقدية التي خاضها العقاد مع أمير الشعراء، حيث يرى حنفي أن الخلاف بين العقاد وشوقي, كان خلافاً بين تيارين وليس بين شخصين, فالتيار الذي شقه العقاد تيار عنيف جارف، وإن ما قامت به مدرسة الديوان عام 1921 كان إيذاناً لشباب الاتجاهات الجديدة بالانطلاق في التفكير والتعبير، وإيذاناً للعقاد بإعلان مذهبه الجديد في النقد الذي وصفه بأنه مذهب يقيم حداً بين عهدين, وسبق نلك المحاولات محاولات البارودي الذي بعث الشعر بعد كبوة متخذاً منهج إحياء سنة السلف أو إعادة الحياة إلى الصورة التراثية للقصيدة العربية القديمة بكل ما تنطوي عليه من تصوير وديباجة وموسيقا وكان شعره يتميز بعدة سمات واضحة مثل اللفظ الفخم وبلاغة العبارة ومتانة التركيب المعماري وروح البلاغة وفطرته الحية كما وصفه الشيخ حسين المرصفي في كتابه الوسيلة الأدبية، لكن شوقي هو رائد مرحلة النهضة الشعرية عبر تركيزه على محوري التجديد والابتكار فهو عميق الشعور بما ينبغى أن يكون عليه الشعر شديد الإيمان لضرورة الانصراف عن أبواب الشعر القديمة وفتح آفاق أرحب أمام القصيد الشعري مستغلاً ما طبع عليه من سلاسة اللفظ وعذوبة السياق ورقة النغمة الموسيقية،
الزهاوي المتخفي
ومن غرائب معارك العقاد الأدبية تلك المعركة التي خاضها مع خصم ظل مجهولا له وللقراء ، حتى مات الخصم ومات العقاد ، بل والضحية الذي وجه له العقاد سهامه ، ظنا منه أن هذا هو خصمه ، وما كان بخصمه ، والمعركة في حقيقتها تنطوي على جوانب طريفة وأيضا محزنة يحكيها الكاتب العراقي الراحل عبد الرزاق الهلالي في كتابه
"الزهاوي في معاركه الأدبية والفكرية "
فقد وجه قاريء تونسي سؤالا للعقاد حول رأيه في شعر الشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي، وأجابه مفكرنا الكبير في مقالة بمجلة البلاغ عام 1927يكاد يجرد فيه الزهاوي من الشعرية ، ويصنفه فقط عالما ! ، لم يرق ما جاء في المقال الزهاوي " .

فرد في مقال بجريدة السياسة الأسبوعية القاهرية ، حيث أظهر عبر لغة لينة تخلو من روح العداء ، ربما خوفا من رد فعل العقاد المعروف بشراسته أن العقل هو أساس كل تقدم وكل حضارة ، فكتب العقاد ثانية مؤكدا أن أن الخيال والعاطفة - قبل العقل - هما وراء كل الحضارات
وتساءل العقاد كيف يكون الشعر شعرا إن كان عقلا كله ومنطقا ، ولم يعتمد على العاطفة والخيال ، !
وانتهى العقاد إلى القول إن الزهاوي بذلك يجرد نفسه من الشاعرية!
وبعد فترة فوجيء العقاد بسلسلة مقالات في مجلة "لغة العرب " تنتقد ديوانا له ، وظن العقاد أن كاتب المقالات التي نشرت بدون اسم هو الأب أنستاس الكرملي صاحب المجلة
فبدأ يهاجمه كعادته إن وقع في خصومة بقسوة وشراسة ، حتى أنه اتهمه بوهن في عربيته
حيث قال في أحد مقالاته : وفي ردنا على نقد هذه المجلة - أي لغة العرب - لديواننا فائدة قيمة , غير فائدة التصحيح وإظهار الأخطاء التي وقع فيها الناقد المغرور , وهي الكشف عن حقيقة الشهرة التي تُنال أحياناً في بلادنا الشرقية , فقد تُذاع عن بعض سمعة العلم بالعربية وهم يجهلون من أولياتها وأصولها ما يفترض علمه في صغار الشداة المبتدئين ! وترى هؤلاء المشهورين يبيحون لأنفسهم مقام الإفتاء والتحليل والتحريم في ألسنة العرب ، وهم لا يفقهون منها جائزا ولا ممنوعا ولا يقيمون فهم عبارات منها قلما تخفى على سواد الناس ! وفي طليعة هؤلاء صاحب مجلة (لغة العرب). فالكشف عن حقيقة هذه الشهرة الزائفة باب من أبواب العبرة خليق أن يقصد لذاته , ويتخذ مثالا لغيره من ضروب السمعة التي لا تقوم على أساس !
والمعني بهجوم العقاد هو الكرملي نفسه ، من منطلق أنه صاحب المقالات التي هاجمت ديوان العقاد ، مات الزهاوي ، وبعده الكرملي ، ثم العقاد ، والجميع يتناول الأمر على أنها معركة أدبية بين الكرملي والنقاد ، إلى أن أصدر عبد الرازق الهلالي كتابه هذا ، كاشفا أن من كتب المقالات التي تناولت ديوان العقاد بالنقد في مجلة لغة العرب ، ليس صاحبها الكرملي ، بل الزهاوي نفسه !
والغريب أن أحدا لم يتوقف أمام حقيقة جلية :كيف يقع الأب أنستاس الكرملي في ذلك الوهن اللغوي الذي قصده العقاد في مقالاته وهو- أي الكرملي- أحد كبار علماء العربية ، وعضو المجمعين اللغويين الشهيرين ، مجمع القاهرة ومجمع دمشق ! والغريب أيضا : لماذا لم يكشف الكرملي عن حقيقة أن كاتب المقالات هو الزهاوي، وظل محتفظا بسره حتى بعد وفاة الزهاوي عام 1936 ، ووفاة العقاد عام 1964 ، إلى أن رحل هو عام 1966 ، دون أن يقول شيئا !!!!