[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/suodalharthy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]سعود بن علي الحارثي[/author]
ثانيا : سريلانكا ماض مليء بالأساطير وحاضر حافل بالانجازات:
هنا وعلى هذه الجزيرة الواسعة بمدنها العامرة وشواطئها الذهبية وجمال طبيعتها الآسر وموقعها الاستراتيجي ومركزها التجاري النابض بالحياة, والذي كان عامل نشاط وجذبا بشريا ومكونا لكل تلك السلالات والأعراق من البشر الذين عاشوا بمحض ارادتهم أو قادتهم الظروف والطرق فعشقوا المكان أو رغما عن إرادتهم, فتزاوجوا وتداخلت مصالحهم وعملوا معا وساهموا في بناء وتشكل وقيام سريلانكا والدفاع عن أرضها وتخليصها من المستعمرين الأوروبيين الذين تناوبوا على استغلالها واستثمار ثرواتها وتدمير مقدراتها على مدى قرون من الزمن كما هو حالهم مع مختلف البلدان والشعوب, والانطلاقة بعد ذلك إلى تحقيق غايات التطور والتقدم والانتقال التدريجي إلى الاقتصاد الصناعي الحديث, وبفضل موقعها الاستراتيجي في ملتقي الطرق البحرية الرئيسية الرابطة بين غرب آسيا وجنوب شرق آسيا فقد لعبت دورا مهما وحيويا إبان فترة طريق الحرير وصولا إلى مرحلة الحرب العالمية الثانية وكانت بمثابة قاعدة لقوات الحلفاء في الحرب ضد اليابان, ولا شك بأن الكثير من العرب والمسلمين وفي مقدمتهم العمانيون بالطبع كانوا من أوائل من وصل إلى هذه الجزيرة فقد كانت السفن العمانية (( تجوب البحار وتنقل البضائع بين حواضر التجارة العالمية آنذاك, وقد وثق ذلك العلاقات التجارية العمانية مع العديد من بلدان العالم, فكان العمانيون يتاجرون منذ القديم مع الصين والهند وسيلان ... )), وفي انتقالهم من حاضرة إلى أخرى ومن ميناء تجاري إلى آخر نظير له كان العمانيون ينشرون الإسلام ويقيمون علاقات انسانية وحضارية مع شعوب الدول الآسيوية والإفريقية, ويستوطن ويتزوج بعضهم هناك. فها هي المصادر الفقهية العمانية تشير إلى الجالية العمانية المقيمة في بلاد الهند, أنهم (( كانوا على اتصال بوطنهم الأم, وأنهم كانوا يوصون ببعض أموالهم لمشاريع خيرية في بلدهم عمان ... )), فكم من السفن العمانية التي رست على هذه الموانئ , عندما كان العمانيون آساد البحار وربابنة السفن وقادة الجيوش ورجال دعوة لا ينافسهم في ذلك منافس؟ وكم من الأقدام التي تحركت في دروب وأسواق مدن سيلان ومناطقها المختلفة لا يهم أصحابها إلا تحقيق غاياتهم وأهدافهم في العمل والتجارة والدعوة إلى الله ؟ وكم من التجار والدعاة العمانيين الذين ساهموا في نشر الإسلام وتنشيط الحركة التجارية والإسهام في بث الوعي نحن في أشد الحاجة لمعرفتهم وإحياء ذكراهم والاقتداء بهم, بمبادئهم السامية وبقوة تحملهم وشجاعتهم وتضحياتهم الكبيرة وتصميمهم على مواجهة التحديات ... على هذه الأرض عاش قادة الثورة العرابية في منفاهم الضيق والكئيب برغم سعة الجزيرة وطبيعتها الخلابة وطقسها الاستوائي وجمالها الآسر وما تمتلكه من منتجات زراعية إلا أن المنفى وتقييد الحرية والابتعاد عن الوطن والحنين إليه وعدم تمكين الإنسان من لقائه وبعد الأحبة ... مما يورث الحزن والحرقة والألم ويورث الكآبة والمرض ويولد الكراهية تجاه ذلك السجن وإن كان جنة من جنان الأرض, هنا صدح لسان الشاعر من أعماق نفسه بأجمل قصائده التي صورت كل تلك المعاناة وذلك الإباء والتصميم والبقاء على القيم والمبادئ مهما كانت التضحيات, وعبر السياسي عن آرائه وتوجهاته في مناقشات وحوارات ساخنة شهدتها أمسيات وصباحات كولومبو ومدن سريلانكا التي تشرفت بهؤلاء القادة الكبار, ورسم الفنان أفضل لوحاته وكتب الأديب أجمل نصوصه, وساهموا جميعا مع قائد الثورة وملهمها أحمد عرابي باشا في تعزيز الثقافة العربية الإسلامية وتقديم الأفكار والملاحظات والاسهام في إنشاء المدارس والمعاهد المحققة لتلك الأهداف والتدريس والقاء المحاضرات فيها. هنا وفي هذا المكان أقاموا حياة سياسية وأدبية قوامها الفكر الوقاد والرؤية الواضحة للأمور والأحداث والاخلاص والوفاء للوطن والأمة , وقيم ومثل لا يسري إلى أوصال المؤمنين بها وهن أو ضعف, لأنها مبادئ إنسانية وحضارية لا يختلف عليها اثنان في هذا العالم, حرية الوطن واستقلاله والدفاع عن حياضه, حرية الكلمة وسيادة القانون, والتضحية من أجل مصر العروبة والتصميم على تجاوز كل الصعوبات والمعوقات لنيل الاستقلال مهما بلغت المعاناة وأيا كانت الحماقات والتصرفات الهوجاء التي مارسها المستعمرون في حق المناضلين والأبطال, نضال وتضحيات ومبادئ وجهود أضاعها الأبناء وأساءت إليها أنظمة فسدت وطغت ولم تكن بأفضل حال من المستعمر فأسلمت البلاد نهبا للفوضى والتصفيات والصراعات الداخلية ولمستقبل مجهول, كانت سيلان محظوظة أنها احتضنت هؤلاء الكبار الذين خلدوا ذكرها في المحافل الأدبية والثقافية والسياسية وفي أعمالهم وسيرهم العامة, وتردد اسم ((سيلان )) في قصائد البارودي وسيرة وحياة زعيم الثورة العرابية وقادتها, فهل تم رصد تلك الحياة الحافلة بالأعمال الأدبية والثقافية, الغنية بالمناقشات والحوارات السياسية والوطنية؟ وهل من أحد سعى إلى توثيق حياة وسيرة من ساهموا فيها ومدى تأثير تلك الحياة على الجزيرة السريلانكية وأهلها والرواد فيها؟
تقع جزيرة سريلانكا أو جمهورية سريلانكا الديمقراطية الاشتراكية, في المحيط الهندي, على بعد 32كم من الساحل الجنوبي الشرقي للهند, تعد الزراعة عصب الاقتصاد في الجزيرة, ويأتي في مقدمتها الشاي السريلانكي والبن والمطاط وجوز الهند, نالت البلاد استقلالها عام 1948م , بعد 450 عاما من الاستعمار الأوروبي البرتغالي والهولندي والبريطاني, وأصبح للمسلمين دورٌ مهم في الحياة السياسية, وفي المؤسسات التعليمية, ويشغلون الكثير من الوظائف الإدارية. نظام الحكم في سريلانكا جمهوري مكون من رئيس الدولة وبرلمان مشكل من 225 عضوا, ويختار السريلانكيون الرئيس وأعضاء البرلمان كل ست سنوات, ويعد الحزب الوطني المتحد أكبر حزب سياسي في البلاد. يبلغ عدد سكان الجزيرة 18559000 نسمة ينتمون إلى سلالات عرقية متباينة وأكثر السلالات السنهال وتبلغ نسبتهم ما يقارب ال 74%, وينحدرون من شعوب شمال الهند, وتعرف لغتهم بالسنهالا, ومعظمهم يعتنقون الديانة البوذية, والسنهالا اسم يعني في اللغة المحلية ( الحية الضخمة), ويمثل التاميل ما نسبته 18% من مجموع السكان وتنحدر أصولهم من جنوب الهند, وتعد اللغتان السنهالية والتاميلية اللغتين الرسميتين في البلاد, ويشكل المور المغاربة ( أحفاد العرب ) ثالث مجموعة عرقية في سريلانكا, ونسبتهم 7% يتحدث معظمهم لغة التاميل ويدينون بالإسلام. تتوزع نسب المنتمين إلى الديانات في سريلانكا على النحو التالي: البوذية 69%, الهندوسية 15%, الإسلام 8%. التعليم في سريلانكا محل اهتمام الحكومات المتعاقبة, حيث حقق هذا القطاع مؤشرات وانجازات محترمة وضعت البلاد في مصاف الدول المتقدمة في هذا المجال, فالتعليم في الجزيرة مجاني ابتداء من مرحلة الروضة وحتى الجامعة, وهو إلزامي بالنسبة للأطفال من عمر خمس سنوات وحتى عمر أربعة عشر عاما, وتم إنشاء ما يقارب من خمس عشرة جامعة حكومية في البلاد تتوافر فيها جميع التخصصات العلمية, ويستطيع 92 % من السكان الذين تبلغ أعمارهم خمس عشرة سنة فما فوق القراءة والكتابة, وتعد هذه النسبة من أعلى نسب التعليم بين الشعوب الآسيوية. وتشتهر سريلانكا بفنون العمارة والنحت والآداب والموسيقى والمسرح والرقص وإرث حضاري عريق يمتد عبر ثلاثة آلاف سنة. الصراع الدموي الذي أداره متمردو نمور التاميل على مدى أكثر من عقدين من الزمن أي منذ العام 1983م, والعنف الذي رافقه خلف أكثر من 65 ألف قتيل, وأثر على التنمية وترك أضرارا كبيرة على البنى التحتية وعلى اقتصاد البلاد, وتسبب انعدام الأمن وغياب الاستقرار والهجمات الانتحارية في انحسار قطاع السياحة وقد انتهت الحرب في العام 2002م, بعد اتفاق سلام بين الجانبين في تايلند برعاية نرويجية, وقد تمكنت الحكومة السريلانكية في عام 2009م, من القضاء على الحركة نهائيا وقتل زعيمها. بدايات الصراع بين التاميل والسنهيل كان في العام 1956م , عندما أقرت حكومة بندرانايكا قانونا يجعل من اللغة السنهالية اللغة الرسمية الوحيدة في البلاد, وتأرجح هذا الصراع بين هدوء تفرضه الاتفاقات وإعلانات التهدئة التي ما تلبث أن يتم تجاهلها فيشتد ويحتدم مرة أخرى, بعد اغتيال بندرانايكا على يد أحد المتطرفين السنهال عام 1959م , أصبحت أرملته سيريمافوبندرانايكا رئيسة للوزراء عام 1960م, لتكون بذلك أول امرأة في العالم تشغل هذا المنصب. اتسمت المراحل التاريخية لجزيرة سريلانكا بالصراعات العنيفة بين القبائل التي توافدت عليها من شمال الهند وجنوبها إلى أن احتلها البرتغاليون في القرن السادس عشر, وحل محلهم بعد ذلك الهولنديون في منتصف القرن السابع عشر, وسيطر الانجليز عليها بعد الهولنديين في عام 1802 م, وحصلت المستعمرة بعد مفاوضات سلمية على الاستقلال في الرابع من فبراير 1948م, وأصبحت تعرف بدولة سيلان المستقلة. تعد كولومبو عاصمة البلاد أكبر مدينة فيها, وهي عبارة عن ميناء بحري كبير ومركز تجاري مهم في بيع وتصدير وتصنيع الشاي وجوز الهند والقطن, وكولومبو مدينة تاريخية تتميز بالعراقة والقدم فقد أسست قبل منتصف القرن الرابع الميلادي, وكانت تسمى في العهد القديم وفقا لرأي عدد من المؤرخين ( كولامبا ) وهو يعني المرفأ أو أشجار المانجو المورقة, وكلمة كولومبو الحالية ما هي إلا التحريف الأوروبي للأصل, أنشأ الهولنديون فيها عددا من الأبنية التي لا تزال قائمة حتى الأن ومن بينها كنيسة ( ولفندال ) التي أنشئت في العام 1749م . لخص الرومانسيون قصة تاريخ جزيرة سريلانكا تلخيصاً خيالياً عندما وصفوها (بدمعة عين الهند) استنادا إلى أن وجه شبه القارة الهندية العظيمة في خيالهم كان قد ذرف دموع الفرح، فتجمدت دمعة من تلك الدموع في الهواء، ثم سقطت في البحر لتصبح جزيرة سريلانكا. أما السيلانيون فيعتقدون أن جزيرتهم هي (جنة عدن) الحقيقية، ويستدلون على هذا الاعتقاد بجبل في هذه الجزيرة يسمى (جبل آدم) المقدس الذي يبلغ ارتفاعه 2224 متراً. فما أن يبلغ المرء قمة هذا الجبل مواطنا كان أم سائحا في رحلة شاقة على متن عربات تجرها الثيران حتى تمكنه الرؤية من مشاهدة مجموعات من الحجاج البوذيين والهندوس والمسيحيين وهم يتسلقونه لبلوغ قمته، أما الامتداد الضيق من الصخور والجزر الصغيرة الفاصل بين سريلانكا والهند، فهو كل ما تبقى من الأرض التي كانت تربط بينهما قبل ملايين السنين، لكن السيلانيين يعتقدون أن هذا المضيق هو جزء من (جسر آدم) وأن الله كسره إلى قطع من الصخور والجزر الصغيرة عقب طرد آدم من (جنة عدن) حتى لا يطمع في العودة إليها مرة أخرى. إن الكثير من المعالم والمكونات الطبيعية والوجود البشري في الجزيرة والعادات والتقاليد والمناسبات الشعبية تحمل أو تربط أوتفسر بمعاني ودلالات أشبه بالأساطير والخيالات القديمة منها إلى الحقيقة, ومن يتتبع تلك الأساطير يجد عجبا بما تتضمنه من قصص وحكاوي وسرد لا يتقبله العقل البشري الواعي والمتعلم. هذا جزء يسير انتقيته مما تولد لدي من معلومات واسعة بعد بحث مكثف ومتعدد الوسائل, وإلا فإن الكثير الكثير مما لا يحتمله مقال وإن جزءا إلى أعداد سيظل محفوظا في ملفاته يصعب تضمينه ... أفلا تستحق هذه الجزيرة الساحرة بخيالات وأساطير حكاياتها وتناقضاتها الكثيرة وهي تعيش عصر النهضة والتطور والتي مكنت أول امرأة في العالم من أن تشغل منصب رئيس للوزراء فيها, وأن تقدم أعلى مؤشر للتعليم بين الشعوب الآسيوية, ولديها هذا الارث الحضاري والتاريخي الموغل في القدم , والطبيعة الخلابة والموقع الاستراتيجي, وأن يبعث أهلها برسول إلى المدينة في بدايات انتشار الإسلام للتعرف على الدين الجديد, وأن تستقبل أرضها التجار والرحالة والساسة والأدباء من العرب والمسلمين وغيرهم من شعوب الأرض, وأن تحمل ثقافتها هذا المخزون الهائل من الأساطير, وتطلق عليها كل هذه الأسماء التي لم يتطرق المقال إلا إلى بعضها, أن يتجشم المرء عناء السفرإليها ليرى كل ذلك أو ما تبقى منه على الحقيقة وعلى أرض الواقع ؟ هذا ما حدث وتحقق وما سوف يستعرضه الجزء الثالث من المقال.