[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/khamis.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]خميس التوبي[/author]
قبل أيام قلائل تداولت وسائل التواصل الاجتماعي (واتس أب تحديدًا)، ومن باب الطرافة الممزوجة بالعبرة وأن "النار تعظم من مستصغر الشرر"، و"اتقِ شر من قرب إلى الأرض" قصة الطالب المراهق الصربي جافريلو برنسيب القصير القامة المشحون بقوميته والمتعصب لها الذي غيَّر العالم برصاصتين من مسدسه وضعهما في صدر الأرشيدوق فرانز فرديناند ولي عهد إمبراطورية النمسا والمجر وبطن زوجته، ليطلق بعدهما شرارة الحرب العالمية الأولى بين الإمبراطورية وحلفائها، وصربيا وحلفائها، في الثامن والعشرين من يونيو عام 1914م، حيث كان ولي العهد في هذا اليوم في طريقه للتفتيش على قوات الإمبراطورية في إقليم البوسنة، وتصادف أن يكون هذا اليوم موافقًا للذكرى السنوية لهزيمة الصرب أمام الأتراك عام ١٣٨٩، بالإضافة إلى أن إمبراطورية النمسا والمجر كانت قد ضمَّت بالقوة إقليمي البوسنة والهرسك إلى ممتلكات الإمبراطورية عام ١٩٠٨ وأعلنت عزمها ضم صربيا أيضًا، الأمر الذي أثار سخط القوميين الصرب الذين كانوا ينادون بدولة صربية مستقلة تضم الصرب والبوسنة والهرسك، ليتسبب هذا الطالب جافريلو "القصير المكير" في إبادة عشرة ملايين إنسان، وغير ذلك مما انتهت إليه الحرب العالمية الأولى.
الشاهد هنا، هو أنه في الوقت الذي تسير فيه الدولتان العظميان (روسيا الاتحادية والولايات المتحدة) نحو حل الأزمة السورية سياسيًّا، يصر من يدفعهم ماضيهم الاستعماري وفكرهم الآيديولوجي الإلغائي على توتير الأجواء ومحاولة استنساخ أسباب لتفجير حرب عالمية ثالثة في المنطقة والعالم، بما فيها أسباب الحربين العالميتين الأولى والثانية، كخيار بعدما فشلت كل محاولاتهم تقريبًا عبر تنظيمات الإرهاب في عبور بوابة دمشق والإطاحة بالدولة السورية، وفي مقدمة هؤلاء الرئيس التركي رجب طيب إردوغان وحكومة حزبه العدالة والتنمية والذي لا تزال تعشش في عقله وفكره أحلام إعادة الماضي الاستعماري للدولة العثمانية والتي يريدها أن تبدأ بأراضي سوريا والعراق.
من الواضح أن إردوغان يرى أن الأسباب مثلما كانت كافية لاندلاع الحربين العالميتين الأولى والثانية، باتت اليوم أيضًا مهيأة وكافية لإطلاق شرارة حرب عالمية ثالثة، فلم يتوقف وحكومته لحظة واحدة عن التدخل في الشؤون الداخلية لـ"الجار، والصاحب" (سوريا والعراق)، ويستمر في تحرشه بروسيا. ويبدو أن هذا أضحى خيارًا في العقلية الإردوغانية بعد الخيبات التي حصدتها حكومة العدالة والتنمية بدءًا من فشلها في إقامة ما يسمى مناطق "عازلة وآمنة" في الأراضي السورية، وفشلها في استجداء التدخل العسكري المباشر بجر أرجل حلف شمال الأطلسي تارة باستفزاز سوريا وانتهاك سيادتها من خلال الطائرة التركية التي أسقطتها المضادات الأرضية السورية، وتارة بالإيعاز إلى العصابات الإرهابية إلى استخدام السلاح الكيماوي ضد المدنيين السوريين في خان العسل والغوطة، وتارة بانتهاك السيادة الروسية بإسقاط مقاتلة "السوخوي 24" والذي ترتب عليه تغطية موسكو المجال الجوي السوري بمنظومة الصواريخ "أس 400" وتزويد طائراتها بصواريخ جو ـ جو، أي إغلاق المجال الجوي السوري في وجه الطائرات التركية المنتهكة للسيادة السورية بزعم محاربة تنظيم "داعش". وما المحاكمة الأخيرة التي طالت رؤساء الصحف التركية المعارضة لكشفها دعم أنقرة للتنظيمات الإرهابية في سوريا إلا أبرز دليل.
في الحقيقة، إردوغان لا يريد أن يكتفي بلعب دور "الكومبارس" فقط كالبقية في المعسكر الصهيو ـ أميركي، وإنما يرغب في أخذ مقابل لهذا الدور، واليوم هناك معطيات تجعله وحكومته يتجرعان المرارة، وتدفعانهما نحو توتير الأجواء ورفع سخونة الأحداث والدفع بخيار تفجير الحرب الشاملة ـ خاصة إذا وجد نفسه أنه خرج من المؤامرة على سوريا خالي الوفاض ويجر أذيال الهزيمة ـ ومن هذه المعطيات: الفشل في إشراك ما يسمى "أحرار الشام" المحسوبة تحديدًا على أنقرة في وفد "معارضة الرياض"، والضغط الكبير الذي تمارسه موسكو لضم المستبعدين من هذا الوفد وفي مقدمتهم المكون السياسي الكردي الذي ترفع أنقرة الفيتو ضد مشاركته، وكذلك مجيء الأوامر الأميركية إلى بيادق "المعارضة" بالتحرك فورًا وركوب "طائرة الشحن" إلى جنيف، كما وصفها وزير الإعلام السوري عمران الزعبي الذي نفى جملةً وتفصيلًا ـ في حوار مع القناة السورية ـ إعطاء وفد "المعارضة" أي ضمانات. وكان إردوغان وصف بـ"الخيانة" مشاركة هذه "المعارضة" دون التزام دمشق بالشروط المسبقة لـ"معارضة الرياض" وهي "وقف إطلاق النار والسماح بدخول المساعدات الإنسانية"، إضافة إلى ذلك العامل الميداني الذي يحرزه الجيش العربي السوري وتطهير المدن والقرى والأرياف المحاصرة من قبل التنظيمات الإرهابية المدعومة من جانب حكومة العدالة والتنمية، فاللاذقية غدت مطهرة بصورة شبه تامة، ما يعني أن الأوراق التي كان يمسك بها إردوغان تحترق في يديه واحدة تلو الأخرى. ولذلك لم يكن مثيرًا للدهشة الاتهام الذي أطلقه أمس الأول ضد روسيا بأن إحدى طائراتها قد اخترقت المجال الجوي التركي، وهو ما نفته وزارة الدفاع الروسية. وكعادته، هرول باكيًا إلى حلف شمال الأطلسي وبدأ يوزع تهديده ووعيده، وأن روسيا ستواجه "عواقب" وخيمة على ما وصفها بـ"أعمال غير مسؤولة".
الفارق بين المراهق الصربي جافريلو والرئيس التركي، هو أن الأول انطلق من تعصبه لقوميته وغيرته على أرضه وسيادة بلاده، ومن رغبته في مقاومة من رآه محتلًّا لأرضه، وأطلق شرارة الحرب العالمية في ذكرى هزيمة الصرب أمام الأتراك. أما الثاني فهو ينطلق من إرث أجداده التوسعي الاستعماري ويسعى إلى إطلاق شرارة الحرب بعد نكسات وخيبات متكررة سقاه من كأسها الروسي.
إذن، مشوار الحل في سوريا طويل ويراد له أن يكون طويلًا، وستكثر أدوار "الكومبارس" الذين يقودهم الصهيو ـ أميركي، وعلى الشعب السوري أن يوقن ذلك، ويتحرك مع جيشه الباسل لصون بلاده والدفاع عن حياضها، ويضع تحت حذائه، كل الشعارات التي ترفع ليتاجر بها بحقوقه وبأرضه واستقلالها وسيادتها. فالميدان هو من يصنع الحل.