في موازين العدالة الدولية والمساواة والمصداقية، من ينظر إلى الحال التي وصلت إليها المحكمة الجنائية الدولية يجد أنها استكمال لخطط الهيمنة عبر أذرع تحمل طابع الدولية والشرعية وتتدثر برداء الدفاع عن حقوق الإنسان وقضايا الشعوب، لكنها في حقيقة جوهرها عصا غليظة بيد بعض القوى الكبرى إلى جانب عصا منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن ومجلس حقوق الإنسان التابع للمنظمة الدولية، ترفعها تلك القوى في وجه من تريد، وتخفضها عن من تريد، في ازدواجية معايير مستفزة، ومتناقضة مع أبسط المبادئ والقيم الإنسانية والأخلاقية.
فدور المحكمة الجنائية الدولية ليس فقط في إطار المهمة الوظيفية التي تكفلت بها منذ تأسيسها في العام 2002م، لصالح القوى الكبرى المهيمنة على مفاصل القرار الدولي، وما شهدته من بنية قانونية، وغلبة أساليب التمييز والانتقاء والمزاجية المعبرة عن رغبة واضحة لمراكمة أدوات الهيمنة على الدول المستضعفة ومقدرات شعوبها، بل في الرسالة التي أرادت القوى المهيمنة أن تخطها حيال الدول الساعية إلى استقلال قرارها وصون سيادتها ورفض التبعية الأميركية تحديدًا، بأنها هدف مباشر لهذه المحكمة حالها حال مجلس الأمن.
اليوم تتصدر القارة السمراء وكيان الاحتلال الإسرائيلي لوحة الأدلة على حوائط الابتزاز والابتذال والإذلال، وحوائط التمييز والانتقائية والازدواجية. ففي الوقت الذي يتم فيه وضع رؤوس أنظمة حكم في القارة الإفريقية على مقصلة المحكمة الجنائية بتهمة ارتكاب "جرائم إبادة جماعية، وجرائم ضد الإنسانية، وجرائم حرب، وجرائم اعتداء"، يسرح ويمرح المجرم الحقيقي ونعني به كيان الاحتلال الإسرائيلي الذي ارتكب ـ ولا يزال ـ كل الموبقات والإجرام، وتطلق القوى الكبرى المهيمنة وفي مقدمتها الولايات المتحدة أيادي الإرهاب الإسرائيلي ليواصل ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الاعتداء التي هي صميم دور المحكمة الجنائية الدولية، بل اعتبرت هذه القوى أن تلك الجرائم هي "دفاع عن النفس"، في حين تمارس أساليب الاستهبال والاستغباء والضحك على الذقون بأن الهدف من تأسيس هذه المحكمة هو "وضع حد للثقافة العالمية المتمثلة في الإفلات من العقوبة".
من خلال الدور الوظيفي الذي تلعبه المحكمة الجنائية، لم تكن القارة السمراء وحدها خارج دائرة الملاحقة والاستهداف الغربي أو بالأحرى الصهيو ـ أميركي لما تمثله من مخزون هائل من الثروات الطبيعية والمعدنية والنفطية وحتى البشرية والرقعة الجغرافية الشاسعة لمعظم دولها، وإنما يدخل في دائرة الملاحقة كل من أراد أن يمنع نهب هذه الثروات، أو فضَّل طرفًا مستثمرًا ومنافسًا (كالصين وروسيا) للغربي عامة وللصهيو ـ أميركي خاصة. الفهم لهذا الدور الوظيفي والازدواجية والانتقائية وخطط الاستهداف من خلال عصا المحكمة الجنائية الدولية دفع القادة الأفارقة الذين عقدوا قمة أمس الأول في أديس أبابا إلى تأييد مبادرة كينية تهدف إلى انسحاب جماعي من المحكمة الجنائية التي أكدوا أنها "تستهدف بشراسة" قارتهم. وصرح رئيس تشاد إدريس ديبي "لاحظنا أن المحكمة الجنائية الدولية تستهدف بشراسة إفريقيا والقادة الأفارقة، من بينهم رؤساء حاليون، فيما تشهد سائر أنحاء العالم الكثير من الأحداث والانتهاكات الفادحة لحقوق الإنسان، لكن أحدًا لم يعبِّر عن القلق إزاءها"، معتبرًا أن المسألة كناية عن "الكيل بمكيالين"، و"لهذا قررنا تنسيق موقفنا كي تدرك المحكمة الجنائية الدولية أهمية الموقف الإفريقي من هذه المسألة". صحيح أن القادة الأفارقة لم يتخذوا أي قرار ملزم قانونًا، إلا أن مجرد مناقشة هذا الابتزاز والاستهداف اللذين تمارسهما بعض القوى الكبرى عبر أذرع هيمنتها في العالم خطوة جيدة نحو وجوب اتخاذ مواقف صارمة حيالهما ومجابهتهما، لأنهما يتعارضان مع القانون الدولي والشرعية الدولية، وهذا التعارض يثبت عدم مصداقية مثل هذه المؤسسات الدولية وعدم حياديتها تجاه القضايا الدولية وقضايا الشعوب وعلاقات الدول.