بدأت وزارة التراث والثقافة في تنفيذ برنامج التأهيل لموقع مدينة قلهات الأثري الذي يمتد لخمس سنوات تجري خلالها عمليات تنقيب ومسوحات وترميمات أثرية للمدينة بالتعاون مع فريق فرنسي من المركز القومي الفرنسي للأبحاث العلمية بباريس، وهو ما نتج عنه الحصول على الكثير من المعلومات عن تاريخ وتطور المدينة والتنظيم المساحي بها وأنشطة الميناء بالنسبة لشبكات التجارة الإقليمية والعالمية والحياة اليومية لسكانها.
أعمال التنقيب
ومن بين أعمال التنقيب التي تمت كانت في المسجد الكبير الذي بني عام 700 هـ (1300 ميلادي)، كما تم اكتشاف العديد من الأبنية الكبيرة والمنازل والمخازن، وتمت دراسة أعمال الخزف (السيراميك) والتحصينات وشبكة المياه والمدافن إلى جانب تحليل ومسح للبقايا الأثرية باستخدام نظام تحديد المواقع والتقاط الصور الجوية باستخدام الطائرات الورقية.
علماء ومتخصصون
ويساهم في تنفيذ الخطة العديد من المتخصصين في مجالات مختلفة (علماء آثار، وعلماء في الطوبوغرافية (علم الوصف الجغرافي للمناطق)، ومصممون، ورسامون معماريون وأخصائيون في الأعمال الزخرفية (سيراميك)، وكيميائيون، وعلماء دراسة حيوانات المناطق المختلفة والحقبة التي تواجدوا فيها، وغيرهم) من المركز القومي الفرنسي ووكالة إيفيها للأثريات (ليموجز ـ فرنسا) وصندوق الآثار الدولي (نيويورك ـ الولايات المتحدة الأميركية).
حفر .. استكشاف .. حفظ
وتتضمن الخطة عمليات حفر واستكشاف شاملة في بعض المناطق المختارة في الموقع لمدة ستة أشهر متواصلة في السنة، وإجراءات خاصة بالحفاظ على المستكشفات الأثرية ودعم وتقوية المباني المكتشفة حتى يمكن عرضها على الزوار من خلال التطوير السياحي لمركز الشرح والتفسير.
الموسم الأول
خلال الموسم الأول (يناير – أبريل 2013م) تم التعرف على خمسة أشكال رئيسية من المنازل تتراوح فتراتها بين القرن الرابع عشر وحتى نهاية القرن السادس عشر وهو تاريخ هجر مدينة قلهات، حيث احتفظت الأشكال العامة لهذه الأبنية بنظام خاص وهى عبارة عن طابق أرضى مع غرف حول الفناء التي خصصت لبعض الأنشطة الحرفية، مع وجود سلم كمدخل للطابق الثاني الذى من المحتمل أن يكون قد خصص لأغراض خاصة، كما عثر أيضا على بعض هياكل لأبنية.
الموسم الثاني
أما في الموسم الثاني (أكتوبر 2013 – مارس 2014) يجري تخصيصه لتنظيف مسجد المدينة الكبير بالكامل، والذي تم اكتشافه عام 2008م على شاطئ البحر في منتصف المدينة تم بناؤه على قاعدة يبلغ ارتفاعها خمسة أمتار، ومئذنة طويلة وفناءين وعدة مبان ملحقة به، وكان المسجد غنيا بالزخارف المشكلة من الجبس والبلاط البراق الذى تم استخراجه من مدينة قلهات أو تم استيراده من كاشان في إيران، كما كان المسجد يمثل صرحا كبيرا مشهورا في المدينة خلال العصور الوسطى قبل أن يدمره البرتغاليون في عام 1508م.
مرفأ رئيسي
وتعد مدينة قلهات من أقدم المدن والموانئ العمانية وتقع على حافة جرف بحري يبعد عن مدينة صور بمحافظة جنوب الشرقية بحوالي 25 كيلو مترا باتجاه الشمال الغربي، وتبعد عن مدينة مسقط بنحو 150 كيلو مترا إلى الجنوب الشرقي. وهي ذات أهمية تراثية وتاريخية عريقة عبر التاريخ فقد كانت للمدينة أهمية اقتصادية تم توثيقها في الكثير من الكتب التي ألفها العديد من الرحالة العالميين. ولقد بلغت المدينة ذروة نشاطها وازدهارها خلال القرن الثاني عشر قبل الميلاد واستمرت خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر.
كما تعد مدينة قلهات أحد المواقع الأثرية في التي تبلغ مساحتها 35 هكتارا من الشواهد الأثرية كمرفأ رئيسي في عُمان في العصور الوسطى. ويرجع تاريخ المدينة إلى القرون من الخامس والسادس وحتى القرن العاشر الهجري (القرنين 14 - 15 الميلاديين)، وقد لعبت دورا رئيسيا في شبكات تجارة المحيط الهندي خلال فترة المملكة الهرمزية في القرنين التاسع والعاشر الهجريين (القرنين 14 – 15 الميلاديان.
تقع المدينة على سلسلة صخور في شكل مثلث تطل على بحر العرب من ضلعه الشرقي، أما في الضلع الشمالي الغربي فيوجد وادي حلم وفي ضلعه الذي يقع في الجنوب الغربي فتتمركز جبال الحجر الشرقي، هذا الموقع الجغرافي أعطى لمدينة قلهات ميزات دفاعية طبيعية.
وصف
ورغم أن قلهات حظيت بزيارة عدد من الرحالة والمستكشفين إلا أن إشاراتهم للمدينة لم تتعد وصف ما شاهدوه دون البحث عن تاريخها. فقد زارها الرحالة ماركو بولو في القرن الثالث عشر الميلادي في أوج ازدهارها وأطلق عليها اسم قلاياتي تأثرا بلغته الإيطالية، وذكر في أخبار رحلاته المدينة ووصف ميناءها الكبير الذي تؤمه سفن التجارة القادمة من الهند بسب أهمية موقعه كميناء تجاري وسيط لنقل مختلف البضائع والسلع إلى مناطق عُمان الداخلية.
تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار
وأشار الرحالة العربي ابن بطوطة في كتابه "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار"، إلى زيارته لقلهات، التي جاءت بعد زيارة ماركو بولو بخمسين عاما، حيث أشاد بجمال المدينة وخاصة مسجدها الذي أقيم على الطراز الأسباني، حيث قال" "يوجد في قلهات أسواق ممتازة ومسجد جميل زين بالقرميد، يقع فوق رابية تطل على المدينة ومرفأها. أهلها أصحاب تجارة تعتمد كليا على التعامل مع السفن التجارية القادمة من الهند.
الخليج بلدانه وقبائله
ووصف مايلز، المقيم البريطاني في مسقط خلال الفترة ما بين (1872 - 1880م) قلهات التي زارها عام 1874، في كتابه "الخليج بلدانه وقبائله" بما هي عليه الآن: بقايا حضارة اندثرت معالمها ولم يبق منها غير أطلال وبقايا آثار جراء الزلزال الذي سوى بها التراب.
محطة
ومما يذكره المؤرخون أن مالك بن فهم وأفراد قبيلة "الأزد" اتخذوا من قلهات محطة توقف خلال هجرتهم من اليمن إلى عُمان في القرن الثاني الميلادي، حيث أعادوا تجميع قواتهم وتركوا نساء القبيلة فيها قبل توجههم لمداهمة الفرس في قواعدهم بمدينة صحار بسب مقاومة الفرس لمغادرة عُمان.
همجية
ورغم تعرض المدينة، في نهاية القرن الخامس عشر لهزة زلزالية أتت على جزء كبير منها، إلا أنها ظلت قائمة حتى عام 1508 حين أتى الفونسو دي البوركويرك قائد القوات البرتغالية الغازية على ما تبقى منها وسوى بها الأرض بعد الإمعان في الهمجية من تهديم المدن بعد استسلامها وتقطيع أنوف وآذان السجناء في المدن العُمانية المختلفة لتخويف ملك هرمز قبل الهجوم عليه.
شريط ساحلي
وحين ينظر المرء إلى الشريط الساحلي الممتد من قلهات إلى رأس الجنز في نيابة رأس الحد، والبالغ طوله 75 كيلو مترا، لا يسعه إلا أن يربط بين ثلاثة مواقع مهمة شهدت خلال حقبات متأخرة ازدهارا حضاريا متقدما، وهي: قلهات، مدينة صور، ورأس الجنز.
فقد ذكر المؤرخ والرحالة اليوناني هيردوتس ( 484 ـ 425 قبل الميلاد) المعروف بأبي التاريخ، في كتابه "التاريخ" أن الفينيقيين هاجروا من مدينة صور العُمانية إلى الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط قبل 3500 سنة واستقر بعضهم في لبنان حيث أسسوا على ساحلها مدينة أطلقوا عليها الاسم نفسه.
ويذكر أن سكانها قالوا له إن أجدادهم نزحوا من الخليج حيث كانت لهم مستوطنات على طول سواحله وجزره ونقلوا معهم فنون الملاحة التي برعوا فيها في البحار العربية؛ فتمكنوا من مد نفوذهم التجاري وبسط حضارتهم العظيمة على الساحل المتوسطي والشاطئ الإفريقي. ويعتبر هيرودوتس نقلا عن كهنة مدينة صور الفينيقيين في أيامه بأن هذه المدينة أنشئت قبل 2300 سنة من تلك الأيام.
قطع فخارية قديمة ذات زخارف تعود إلى الألف الرابع قبل الميلاد
وأظهرت الاكتشافات أن الأبجدية شهدت ولادتها الأولى في منطقة رأس الجنز في الألف الثالث قبل الميلاد، وإثر عمليات مسح أولية للموقع في عام 1981م، عثرت بعثة إيطالية فرنسية مشتركة على ما يؤكد أهمية المنطقة التاريخية، فقد اكتشفوا قطعاً فخارية قديمة ذات زخارف تعود إلى الألف الرابع قبل الميلاد، وأسفرت عمليات تنقيب لاحقة عن اكتشاف مجموعة متنوعة من القطع الأثرية ذات قيمة تاريخية غاية في الأهمية.
إن أهمية هذه المكتشفات لا تكمن في قيمتها الذاتية، وإنما فيما كانت تشير إليه حول علاقة سكان تلك المنطقة القدامى بمحيطهم. وتدل تلك المكتشفات على أنهم كانوا صيادين مهرة وأصحاب صناعات متقدمة بمقاييس تلك الحقبة من التاريخ، وأشارت أيضاً إلى صلات المنطقة التجارية بمناطق أخرى قريبة وبعيدة.
ويعتبر ضريح بيبي مريم من الآثار التاريخية المتبقية الدالة على أهمية قلهات التاريخية حيث زين المبنى بنقوش بديعة وله قبة متناسقة الأبعاد تهدم بعض أجزائها وتتشابه جدرانها الأربعة في التصميم والزخرفة إلى جانب العديد من الآثار كخزان لمياه الشرب وحوض ماء إضافة إلى بعض المباني وآثار القبور وسور يحيط بالمدينة.
تباين
ومهما اختلفت الآراء وتباينت حول حقيقة مدينة قلهات وأهميتها السياسية والاقتصادية فإن قلهات كانت تتناوب المجد مع شقيقتها صور وساهمتا على مدى قرون في شهرة عمان البحرية، ولعبتا دورا بارزا في تاريخ المنطقة كلها، فقد كانت مهارات أبنائها بفنون الملاحة ومعرفتهم الواسعة بأسرار البحر جسراً عبرت عليه حضارات معظم الشعوب المطلة على بحر العرب وغرب المحيط الهندي. وكان لسفنهم دور رائد في نقل العمانيين وأبناء المناطق الجنوبية من الجزيرة العربية لاستكشاف وفتح الساحل الشرقي من أفريقيا ونشر الدين الإسلامي والثقافة العربية في أنحاء كثيرة من أفريقيا وآسيا.