[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/khamis.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]خميس التوبي[/author]
بُعيد انتهاء حملة ما سمي "الربيع العربي" التي قادها حلف شمال الأطلسي على ليبيا، خرج إلى العلن وبصورة لافتة تصريح لمحمود جبريل ـ الذي يعد أحد "ثوار" "الربيع" ضد نظام العقيد الراحل معمر القذافي ـ يقول فيه "إن ليبيا تتجه إلى عراق أو صومال آخر". أما مصطفى عبدالجليل رئيس المجلس الوطني الانتقالي الليبي فقد حذر بأن ليبيا تتجه نحو حفرة بلا قرار. وكنت قلت ـ أنا كاتب المقال ـ في أحد المقالات السابقة إن ليبيا هي أفغانستان الجديدة، وليست فقط عراقًا أو صومالًا آخر.
اليوم من يُمعن النظر في تفاصيل المشهد الليبي، وبعد أن تفتحت ورود "الربيع العربي" وأينعت ثماره على أرض ليبيا جراء الجهد غير العادي وخرق قرار مجلس الأمن الدولي رقم (1973) لريها بحمم الطيران الحربي لـ"لناتو" ومباشرة تكوين مجموعات مسلحة تحت مسمى "الثوار" ضد النظام "الديكتاتوري" للعقيد القذافي، وإلقاء طائرات الحلف الأسلحة لمساعدة "الثوار"، يجد المتأمل والمتفكر أن ليبيا قد غدت حقيقةً وواقعًا أفغانستان والعراق والصومال الجديدة، وتحولت إلى خزان إرهابي لا سلطة لأحد عليه؛ أي حفرة بلا قرار، كما وصف عبدالجليل. فهل يا ترى كان كل من جبريل وعبدالجليل على دراية بما يدور وخطط له من قبل اللاعبين والداعمين لهذا الخزان الإرهابي بحكم اقترابهما منهم؟ أم أنهما حين شعرا أن البساط قد سحبته من تحت أرجلهما المجموعات الإرهابية التي كونها اللاعبون باسم "الثوار"؟
يبدو في العقلية الغربية والصهيونية أن ليبيا تمثل أهمية كبرى ودورًا محوريًّا في الاستراتيجية الصهيو ـ غربية المرسومة للمنطقة والتي ترتكز على الإرهاب ودعمه، والتوجه نحو رسم خريطة تقسيم جديدة بديلة لاتفاقية سايكس ـ بيكو.. ويمكن استلماح ذلك من خلال الموقع الجغرافي للدولة الليبية بتموضعها المتشاطر الحدود مع أهم دولتين عربيتين كبريين وهما مصر والجزائر، وهما الدولتان اللتان تمثلان ثقلًا بشريًّا هائلًا وقوة عسكرية وتمتلكان مساحة شاسعة، فمساحة ولاية أو محافظة منهما ومع سكانها تساوي تقريبًا مساحة كيان الاحتلال الصهيوني. الأمر الآخر يمكن استنتاجه من اجتماع أكثر من 20 دولة أمس الثلاثاء، لوضع خطط لمعركتها ضد تنظيم داعش الإرهابي في سوريا والعراق وليبيا، من خلال ما صرح به مسؤولون بأن هذه الدول المجتمعة ستراجع جهودها لاستعادة الأراضي التي استولى عليها التنظيم المتطرف في سوريا والعراق ومناقشة سبل كبح نفوذ متشددي التنظيم خصوصًاً في ليبيا. ما يعني عدم وجود إرادة للقضاء على "داعش"، وإنما هناك محاولات لاستعادة التوازن على الأرض بعد ميل كفته لصالح الجيش العربي السوري والقوات العراقية، وذلك في إطار البحث عن أوراق ميدانية يمكن صرفها في السياسة كما هو الحال في سوريا حيث تجري محادثات مؤتمر الثالث. أما في ليبيا فالمراد هو كبح جماح التنظيم وباقي التنظيمات الإرهابية بمعنى ترويضها وحصرها في الجغرافيا الليبية.
لقد كان لافتًا ظهور تنظيم "داعش" الإرهابي في درنة وتمدده في الجسد الليبي بصورة سريعة ومثيرة للاهتمام، ومباشرة التنظيم السيطرة على مناطق الثروات ومصادر الطاقة، وإحراق خزانات النفط التي لم يتمكن من السيطرة عليها، ما يعني أن المخطط هو ليس غرس شجرة الإرهاب القاعدي بكل تفرعاتها فحسب، وإنما إرساء جذورها ومدها في الأرض الليبية كما جرى في أفغانستان ويجري في العراق وسوريا واليمن وغيرها، بحيث تكون لهذه البؤر الإرهابية القدرة على التحرك السريع وتنفيذ المشاريع والأجندات، وهذا التحول في إحدى صوره يؤكد ـ بما لا يدع مجالًا للشك ـ أن تنظيم "داعش" الإرهابي ولد على يد "الداية" الأميركية ممثلة في الاستخبارات "سي آي إيه" كما أكد ذلك عميلها المنشق إدوارد سنودن، بعد متابعة دقيقة لحمل هذا الجنين المسخ المستنسخ من القاعدة واللذين كلاهما جرى تخليقه من فكر مريض مدمر أصيبت به المنطقة على امتداد عقود، لينوب "أي داعش" عن كيان الاحتلال الصهيوني في استكمال مشروعه الاحتلالي وتوسعه الاستعماري في المنطقة، من خلال قتل سكانها وتهجيرهم، ونهب ثرواتها وسرقة تاريخها الحضاري والإنساني، وضرب نسيجها الاجتماعي بالفتن الطائفية والمذهبية، واستقرارها وإدخالها في دوامة عاصفة من تدمير مؤسسات الدولة ومراكز الأمن والجيش واستهداف قياداتها وعناصرها، وتفخيخ السيارات والعمليات الانتحارية، وجز الرؤوس بعد إلصاق تهم وفواحش باطلة ولم تستوفِ شروط إقامة الحد عليها، كالزنى، وجلد المتأخرين عن الصلاة أو صلاة الجمعة، وغيرها الكثير من بدع الفكر المريض والمدمر. فإثارة الفتن الطائفية والمذهبية وتدمير المؤسسات الأمنية والعسكرية التي تحمي الدولة واستهداف القيادات العسكرية والأمنية هي أمور لا بد منها، بل لا بد من استيفائها للتمكن من تفريغها من سكانها والثقل البشري الذي يمثلونه، وتقسيمها وفق الانتماء الطائفي والمذهبي.
لقد تحولت ليبيا في شكلها الحالي إلى خزان إرهابي لا يقتصر دوره على تفجير الأوضاع داخلها، واستمالة الشباب الباحث عن العمل إلى صفوف التنظيمات الإرهابية فحسب، بل أصبحت مصدرًا لتزويد فروعها أو التنظيمات المناظرة لها في سوريا والعراق واليمن وغيرها. ‏
وعلى الرغم من محاولة تصوير رعاة إرهاب القاعدة بتفرعاته وفي مقدمتها "داعش" بأنه معادٍ لهم، فإنهم مستمرون في إنتاج المزيد من التنظيمات الإرهابية ودعمها كضرورة لا بد منها لنشر "الفوضى الخلاقة" التي لم تصل بعد إلى الجزائر المستهدفة (هناك تحليلات تشير إلى أنه مبيت لها بعد رحيل الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة)، والتي لم تستوفِ نواتجها وأهدافها في مصر. وفي اعتقادي أن هاتين الدولتين العربيتين الكبريين يعلمان ما يحاك ضدهما، لكن على شعبيهما اليقظة والانتباه وعدم الانخداع بالشعارات التي خدع وغرر بها الشباب الليبي والسوري.