إعداد ـ علي بن عوض الشيباني:
أيها القراء الأعزاء:
يقول الله تعالى في كتابه الكريم:(قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ)، فضل الله ورحمته هو التوفيق لطاعة الله، فهي خير مما يجمعون من الطين والحطام والتراب، وهذا تصحيح مهم لما ينبغي أن يفرح به المؤمن، أخرج الطبراني أنه لما قدم خراج العراق إلى عمر ـ رضي الله عنه، خرج عمر ـ رضي الله عنه ـ ومولى له، فجعل يعد الإبل فإذا هو أكثر من ذلك، فجعل عمر ـ رضي الله عنه ـ يقول: الحمد لله. وجعل مولاه يقول: هذا ـ والله ـ من فضل الله ورحمته . فقال عمر ـ رضي الله عنه . كذبت ليس هذا الذي يقول:(قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) ذلك لأن رحمة الله هو القرآن وفضله هو توفيقه للإسلام ونعمة الهداية.
هناك مشاهد في السيرة تدل علي دوافع الفرح والسرور التي كان يفرح لها الصحابة منها:
1 ـ أخرج أحمد والحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان من طرق عن أبي بن كعب ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):(إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن فقلت: أسماني لك؟ قال: نعم . قيل لأبي ـ رضي الله عنه ـ : أفرحت بذلك؟ قال: وما يمنعني والله تعالى يقول:(قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون).
2 ـ روى البخاري عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: بينا أنا ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) خارجان من المسجد فلقينا رجل عند سدة المسجد فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):(ما أعددت لها)؟ قال: فكأن الرجل استكان، ثم قال: يا رسول الله، ما أعددت لها كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله . قال:(فأنت مع من أحببت). في رواية قال أنس بن مالك: فما فرحنا بعد الإسلام فرحا أشد من قول النبي (صلى الله عليه وسلم):(فأنت مع من أحببت). قال أنس: فأنا أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر، فأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم.
3 ـ روي أحمد وبعضه في الصحيحين أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قسم غنائم حنين بين المؤلفة قلوبهم والمهاجرين ولم يعط الأنصار منها شئ، فكأنهم غضبوا ووجدوا في أنفسهم، فجاء سعد بن عبادة ـ رضي الله عنه ـ وقال: يا رسول الله إن هذا الحيّ من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم، لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء. وسأله رسول الله (صلى الله عليه وسلم): وأين أنت من ذلك يا سعد..؟، فأجاب سعد قائلا: ما أنا إلا من قومي، هنالك قال له النبي (صلى الله عليه وسلم):(إذن فاجمع لي قومك) فجمع سعد قومه من الأنصار وجاءهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال:( يا معشر الأنصار! مقالة بلغتني عنكم وجدة وجدتموها في أنفسكم، ألم آتكم ضلالا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟ قالوا: بلى، قال: ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟ أما والله! لو شئتم لقلتم فصدقتم: أتيتنا مُكذَّبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فواسيناك، أوجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ، ووكلتكم إلى إسلامكم ؟ أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعون برسول الله إلى رحالكم؟ فو الذي نفس محمد بيده! لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار).
لم يكن غضب الأنصار من أجل دنيا يصيبونها وهم الذين ضحوا بكرائم أموالهم وأرواحهم من أجل دين الله، وإنما خافوا أن تكون خصوصية العطاء لأهل مكة من المهاجرين السابقين والذين دخلوا في الإسلام بعد الفتح من المؤلفة قلوبهم علامة علي بقائه في مكة وتركه للمدينة، وهم يضنون برسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يتركهم ويغادر مدينتهم، هذا هو حبهم العظيم للنبي الكريم (صلى الله عليه وسلم) ، وهذه مكانته في قلوبهم التي جعلتهم يبكون ويغارون خوفا من ضياع هذا الشرف من بين أيديهم.
الإيمان يصحح الموازين في الفهم والحب والحرص ليكون ذلك كله علي الثمين الباقي وليس علي الرخيص الفاني، فالدنيا كما سماها النبي المصطفى (صلى الله عليه وسلم) (لعاعة) لا تساوي جناح بعوضة، أما الشرف المؤبد فهو شرف الطاعة والفوز بالجنة ورضوان الله الأكبر يوم القيامة.
أخرج أحمد والحاكم عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ في قوله:(أهم يقسمون رحمة ربك) قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول:(إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله يعطي الدنيا من يحب، ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب، فمن أعطاه الدين فقد أحبه).
الدنيا لهوانها علي الله يعطيها لمن يحب ومن لا يحب، يعطيها لأوليائه ويعطيها لأعدائه، أما الدين والهداية ونعمة التوفيق للطاعة فهذه هي الغالية، ولا يعطيها الله إلا لمن طلبها وسعى لها سعيها وهو مؤمن.
وعندما اصطفى الله إبراهيم (صلى الله عليه وسلم) وجعله للناس إماماً، أراد إبراهيم (صلى الله عليه وسلم) أن يكون هذا الخير موصولا في ذريته حتى لا ينقطع إلي يوم القيامة، ولكن الله ما أراد أن تكون النبوة والصلاح والتقوى وراثة وإنما هي اصطفاء من الله تعالي لمن أراد من عباده ليكون نبيا، كما أن الصلاح والهداية لغير الأنبياء لا ينالها إلا من طلبها واجتهد لتزكية نفسه والاستقامة علي أوامر ربه، أما الظالم فلا نصيب له من هذا الخير، (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين).
روى مسلم وغيره أن عمر ـ رضي الله عنه ـ دخل على النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو في مشربته حين هجر نساءه قال: فالتفت فلم أر شيئا يرد البصر إلا أهبا جلودا معطونة قد سطع ريحها، فقلت: يا رسول الله، أنت رسول الله وخيرته، وهذا كسرى وقيصر في الديباج والحرير؟ قال: فاستوى جالسا وقال:(أفي شك أنت يا ابن الخطاب، أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا) فقلت: استغفر لي فقال:(اللهم اغفر له).