سبق أن تناولنا في عدّة مقالات نُشِرَتْ أنواعا من الألف ، و بيَّنَّا شيئًا من أحكامها ، ودلالاتها في السياقات اللغوية المختلفة ، ونواصل الحديث عن هذه الألفات التي كُتِبَتْ حولها كتبٌ كثيرةٌ ، سأشير إلى بعض منها آخر هذه السطور ؛ فمن هذه الألفات :
- الألف المجهولة : وهي تلك الألف التي تردُ في آخر الأفعال والأسماء لتشبع حركتها ، وقد يسمّيها بعضهم بألف الإشباع ، و يسميها آخرون ألف الإطلاق ، ومنها على سبيل المقال :
سلوا قلبي غداة سلا و تابا ***** لعل على الجمال له عتابا
فقد أتى بألف في آخر الفعل ( تاب ) لإشباع فتحة الباء ؛ لأن العربية من ميزاتها أنها لا تقف على متحرك ، فتأتي بحرف ساكن من جنس الحركة لتقف عليه ، ولا تبدأ كذلك بساكن ، فتأتي بألف وصل كحرف ارتكاز تنطلق منه لنطق الساكن ، مثل : ( اِنطلق ، اِستمع ، اِستغفر، اِستغفرْ ) ، و بعد الاسم، مثل :
" أقلِّي اللوم عاذل والعتابا ***** و قولي إن أصبت لقد أصابا "
فقد زاد ألفا في ( العتابا ) في عروض البيت ؛ إشباعًا لفتحة الباء ، وتلاقيا مع ضرْب البيت ( أصابا ) ، حيث أشبع فتحة الباء كذلك ، فهذه هي الألف التي يطلق عيها ألف الإطلاق، أو ألف الإشباع، أو الألف المجهولة ، وكما نرى فإن تلك الألف خاصة بالشعر ، حتى لا ينكسر وزن البيت ، ولأن الحرف في نهاية كل شطر ينبغي أن يكون مسكّنًا ، فنشبع حركته ما لم يأتِ حرفًا صحيحًا سكّنه الشاعر ابتداءً، نحو :
إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدرْ
ولابد لليل أن ينجلي ** ولابد للقيد أن ينكسرْ
فتلك قافية مقيَّدة ، لا نتحدث هنا حولها، إنما حديثُنا عن القافية المطلقة، أي التي جاء آخرها حرفا متحركا ، فينتج عنه حرفٌ من جنس حركة ذلك الحرف الأخير ؛ حتى لا نقف على متحرك .
- ومنها ألف التعايي : ( بياءين بعد الألف ) ، وهي تلك الألف التي يأتي بها المتكلم عندما يعيا باللفظ ، فيقف عليه آتيًا بألف، يمدُّها ؛ انتظارًا لما ينفتح عليه من الكلام ، مثل أن يقول: إنّ عُمَرَا ، فيرتجُّ عليه الكلام، فيقف ، فيمد تلك الألف ، رغم أن اللفظ ممنوع من الصرف، وأنه لا ينون، غير أن المتكلم قد اضطرب، فيرتكز على تلك الألف التي تظهر عِيّهُ، وتوقفه حتى يفتح الله عليه باستمرار الكلام فيما يريد من حديث ، وهي تحصل لآحادنا يوميا عندما يتوقف مفكِّرا ، أو منتظرا لشيء يراه في ذاته ؛ ليعبّر به عما في نفسه ، فينتظر قليلا ، آتيا بتلك الألف كمحطة ينطلق منها إلى استكمال حديثه.
- ومن تلك الألفات ألف الإشارة للحاضر ، نحو : هذا ، و هذه ، و ذاك ، وذلك ، وهاتا ، وذا ، ونحوها من أسماء الإشارة التي نشير بها إلى الشيء أو الشخص الحاضر ، ولكن الرسم القرآني غلب على الإملاء العادي ، فحذف تلك الالف اكتفاء، واجتزاء بفتحة الهاء (هذا ) وأصلها (هاذا)، و(ذلك) ، وأصلها (ذالك) بدليل المفرد الذي لم تلحقه لام البعد ، وكاف الخطاب، وهو (ذا) ، أما إذا لحقته لام البعد، فنراها قد حذفت تلك الألف، والأصل ثبوتها (ذلك)، كما حذفت الياء من (تي) في (تلك) بسبب التقاء الساكنين .
- وهناك ألف تسمى : ألف العجز والضرورة : وهي متعلقة باللهجات ، ففي لهجة بعض الناس ينطقون العيب : الأيب ، ويقولون للعين: الأين؛ عجزا منهم لعدم القدرة على الإتيان بالعين المحققة ، فتلتبس الدلالات من العيب إلى الأيب ، ومن العين إلى الأين .
- ومنها كذلك ألف التفخيم : وهي تلك الألف التي تشبع داخل الكلمة، فتزاد تفخيما لها ، وكذلك لكي لا ينكسر وزن البيت ، وذلك مثل قول القائل :
" أعوذ بالله من العقارب *** الشائلات عقد الأذناب "
و قول رؤبة : " راحت وراح بعض السبساب"، وأراد السبب ، فزاد الألف للقافية ، فزادها تفخيما للكلمة ، ويقول آخر :
" وأنتِ من الغوائل حين تُرْمَيْ **** ومن ذمّ الرجال بمنتزاح"
أراد بمنتزح ، فأشبع الفتحة ، فنشأت الألف ؛ وكقول الآخر :
" أقول إذا خَرَّتْ على الكلكال **** يا ناقتا ما جُلْتِ من مجال " اراد الكلكل ، وهو الصدر من كل شيء ، وهو قد زاد هناليفيد إفخام اللفظ ، وكقول القائل:
" إذا العجوز غضبتْ فطلِّقِ *** و لا ترضَّاها ولا تَمَلَّقِ " إذ الصواب أن يقول: ( ولا ترضها ) بحذف آخر المعتل لعلة النهي ، فكل هذه الكلمات أتت فيها الألف للإفخام .
- وهناك (ا) تسمى الألف ، وهي اسم للواحد في حسب الجُمّل، وكالياء التي هي اسم للإثنين ، وهكذا ، و حساب الجُمّل معروف ، وهو ضرب من الحساب، يُجْعَلُ فيه لكل حرف من الحروف الأبجدية عددٌ من الواحد إلى الألف على ترتيب خاص ، فيعطي كلُّ حرف رقما معينا يدل عليه ، فكانوا من تشكيلة هذه الحروف ومجموعها يصلون إلى ما تعنيه هذه الحروف من تاريخ مقصود ، وكان المسلمون قديما قد وظفوه في تثبيت التاريخ ، وكثيرا ما أُرّخَتْ به أحداث ومناسبات وحروب وتآليف كتب، ونحوها .
- وأخيرا ، هناك ألف تسمى : الألف الكافية : وهي تلك الألف التي يُكتفَى بها عن الكلمة ، وتُغْني عن ذكر حروفها ، مثل : ( الم ) فنحن ننطقها حروفا ، هكذا : ( ألف، لام، ميم ) كما في الحديث الشريف الوارد في ثواب تالي القرآن الكريم ؛ لكنها ألف فقط في الرسم القرآني ، فكأنها كَفَتْ عن حروفها وأغنت ، وهو خاص بالحروف المقطعة في بدايات السور القرآنية.
وللاستزادة من هذ الألفات ،ومعرفة أنواعها ما يتعلق بها يمكن العود إلى كتب الألفات ، و أذكر هنا عددا من تلك الكتب المهمة، ومنها:
- كتاب الألفات لأبي بكر محمد بن عثمان المعروف بالجعد (ت 320هـ )،
- كتاب الألفات لأبي بكر محمد بن القاسم بن بشار الأنباري ( ت328هـ)،
- كتاب ألفات الوصل والقطع لأبي سعيد الحسن بن عبد الله السيرافي(ت368)،
- كتاب الألفات لأبي عبد الله بن الحسين بن احمد بن خالويه (ت370هـ)،
- كتاب الألفات في القرآن لأبي الحسن عليبن الرماني (ت384هـ)،
- وأخيرا كتاب الألفات ومعرفة أصولها لأبي عمرو عثمان بن سعيد الداني (444هـ).
كل ذلك من الكتب القديمة التراثية قد ناقش الألف وأنواعها وخصائصها وضوابطها ، بخلاف كتب المحدثين التي تناولت – هي الأخرى- الألفات بصورة معاصرة ، وأخذت على عاتقها قرارات مجمع اللغة العربية ، والضوابط التي ارتضتها تلك المجامعُ اللغوية ؛ أسأل الله ـ تعالى ـ أن يعلِّمنا جمال لغة كتابه ، وجلال تراكيبها؛لنكون أهلا لفهم رسم المصحف، وحسن الفهم للغته الجليلة، والوقوف على ظلالها ، وكمالها، وجلالها، وجمالها ، إنّه وليّ ذلك، والقادر عليه ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم، وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله، وصحبه أجمعين.


د. جمال عبد العزيز أحمد
كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة
جمهورية مصر العربية
[email protected]