الجود والكرم والسخاء والعطاء هذه كلها ألفاظ لمعنى واحد وكلها صفات عظيمة لا يتصف بها إلا كل عظيم وكلها بعيدة عن الأسراف والتبذير وبعيدة عن البخل والتقطير المنهي عنه في كتاب الله تعالى:(ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً) (الإسراء ـ 29) وكما قال جل من قائل سبحانه:(والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً) (الفرقان ـ 67)، ولكن حب المال تمكن من القلب، فيجعل الأيدي تمسك عن الإنفاق فى سبيل الله تعالى، حتى يصل الأمر إلى الشك في قدرة الله تعالى ـ والعياذ بالله ـ الأمر الذي يجعل النفس لا تثق إلا بما في يدها عما في يد الله تعالى، وهذا والعياذ بالله كفر فمن شط في قدرة الله فقد كفر.
لذا فإن البخيل يرى النفقة فى سبيل الله نقصاً للمال، ويعتبر بذل المال سببا للفقر والحاجة، وهذه الخواطر كلها من وحى الشيطان الذى يعد بالفقر والفحشاء، قال الله تعالى:(الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم) (البقرة ـ 268)، والمؤمنون يثقون بوعد الله تعالى الغيبى الذى يؤكد أن النفقة يزداد بها المال وأن العبد كلما أنفق فتح على نفسه أبواب الرزق.
فكن كريماً ولا تبخل، فإن المال مال الله واعلم أن ما عند الله أبقى، قال الله تعالى:(ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) (النحل ـ 96).
والشح والبخل والتقطير والأمساك كلها أمراض دفينة في النفس وقد كان عبد الرحمن بن عوف ـ رضي الله عنه ـ يكثر من الدعاء في طوافه قائلاً:(اللهم قني شح نفسي) فقال رجل ما أكثر ما تدعوا بهذا قال: إذا وقيت شح نفسي فقد وقيت الشح والظلم والقطيعة ولذلك قال الله جل وعلا:(ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) (الحشر ـ 9).
فالكرم والعطاء والإنفاق والسخاء صفات تجعل الإنسان يصل إلى درجة الإيثار فبذلك يهون المال في عين صاحبه ويصبح المال خادما له وليس مستعبِداً لحريته وكلما عظمت الآخرة في القلب كلما صغرت هذه الدنيا في العيش ويصبح ذهبها وفضتها وقصورها وثمارها كجناح بعوضة أو خيوط عنكبوت وهذا هو السر في كرم السلف النادر وإنفاقهم الرائع وبذلهم للمال بصورة لم يسبق لها مثيل.
وعندما أقول كن كريما ولا تبخل أوجه الحديث لنفسي أولا ويحضرني سؤال كيف أكون كريماً؟ النفس جبلت على حب الخير ومن شب على شيء شاب عليه فكل واحد حسب ما تعود من والديه وأهله وحسب البيئة المحيطة به وحسب ما يروى لنا من قصص تدعنا نحب أن نتشبه بهم ومن تلك القصص قصص الأنبياء والمرسلين عليهم صلوات الله وتسليماته والصحابة والتابعين من السلف الصالح ـ رضي الله عنهم ـ وحتى يتثنى لنا الاقتاد بهم والتأسي بحضرتهم ونتصف بصفاتهم التي من أهمها الكرم ينبغي علينا أن نعرف طرف من كرمهم وجودهم وسخاء نفوسهم يبين بجلاء كيف هانت الدنيا في عيون القوم حينما تطلعت نفوسهم الطاهرة إلى نعيم الآخرة.
صح عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه كان أجود بالخير من الريح المرسلة وأنه ما سئل شيئا قط فقال: لا وإن رجلا سأله فأعطاه غنما بين جبلين فأتى الرجل قومه فقال: ياقوم أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر.
وقال عروة رأيت عائشة ـ رضي الله عنها ـ تقسم سبعين ألفاً وهى ترقع ثوبها ورى أنها قسمت ثمانين ألفاً بين الناس، فلما أمست قالت: يا جارية على فطوري فجاءتها بخبز وزيت فقالت لها أم درة: أما استطعت فيما قسمت اليوم أن تشترى لنا بدرهم لحم نفطر عليه فقالت لو ذكرتني لفعلت، واشترى عبدالله بن عامر من خالد بن عقبة داره في السوق بتسعين ألف درهم، فلما كان الليل سمع بكاء أهل خالد فقال لأهله: ما لهؤلاء قالوا: يبكون على دراهم، قال: يا غلام ائتهم فأعلمهم أن الدار والمال لهم جميعاً، ومرض قيس بن سعد بن عبادة فاستبطأ إخوانه فقيل له: إنهم يستحيون مما لك عليهم من الديْن فقال: أخزى الله مالاً يمنع الإخوان من الزيارة ثم أمر منادياً ينادي: من كان عليه لقيس حق فهو منه في حل قال: فانكسرت درجته بالعشي لكثرة من عاده، وخرج عبدالله بن جعفر ذات يوم إلى ضيعة له وكان رجلاً سخياً فنزل على نخل لقوم، فيها غلام أسود يعمل فيها فأتى الغلام بطعامه فإذا بكلبٍ يدخل الحائط فدنا الكلب من الغلام فرمى إليه قرصاً من طعامه فأكله ثم رمى إليه آخر فأكله ثم رمى إليه ثالثاً فأكله وعبدالله ينظر، فقال: يا غلام كم قوتك كل يوم أى ما هو أجرك اليومي؟ فقال: ما رأيت، قال: فلم آثرت به هذا الكلب؟ قال: ما هي بأرض كلاب وأظنه جاء من مسافة بعيدة جائعاً فكرهت رده، قال: فما أنت صانع؟ قال: أطوي يومي هذا، فقال عبد الله بن جعفر لنفسه: أُلام على السخاء وهذا أسخى مني فاشترى الحائط وما فيها واشترى الغلام وأعتقه ووهب الحائط له.
أما عن الإيثار فحدّث ولا حرج فهو أشد أنواع الكرم فقد وصف الله تعالى الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ في قرآنٍ يُتلى إلى يوم الدين، قال عز من قائل سبحانه:(والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) (الحجرات ـ 9).
والإيثار معناه ببساطة ووضوح يظهر في قراءة هذه القصص، استشهد باليرموك عكرمة وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام ـ رضى الله عنهم ـ وجماعة من بني المغيرة فأتوا بماء وهم صرعى فتدافعوا حتى ماتوا ولم يذوقوه جيئ لعكرمة بالماء ليشرب فنظر إلى سهيل بن عمرو فإذا هو ينظر إليه فقال: ابدأ بهذا ونظر سهيل إلى الحارث فإذا هو ينظر إليه، فقال: ابدأ بهذا وكل منهم يؤثر الآخر على نفسه بالشربة التى تحييه إلى أن ماتوا جميعاً، فمر بهم خالد بن الوليد ـ رضي الله تعالى عنهم ـ جميعاً وقال: بنفسي أنتم، وذات يوم أُهدي إلى رجلٍ من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ جميعاً رأس شاة فقال: إن أخي أحوج مني فبعث بها إلى رجل فقال الرجل ما قاله الأول وبعث بها إلى رجل آخر حتى تداولته سبعة بيوت ورجعت إلى الأول، أمور عجيبة قل وجودها في مجتمعاتنا انفرد بها أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والله إن الحديث عن صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأهل بيته لحديث يأخذ بالألباب وعن سخائهم وإنفاقهم لله وفي سبيل الله بصفة خاصة ما لا يتسع له الوقت ويكفينا أن نعلم ما أنفقه أبو بكر الصديق أو عمر بن الخطاب أو عبد الله بن عمر أو السيدة فاطمة بنت نبينا أو السيدة عائشة أم المؤمنين التى كانت تعطر الصدقة ولما سُئلت قالت إن الصدقة تسقط فى يد الله أولا قبل يد الفقير، أو عبد الرحمن بن عوف الذى قال ما بال عبد الرحمن يخرجه فى النهار درهما يأتيه فى المساء عشراً والأمثلة كثيرة وعديدة .. الله الله في صحابة رسول الله.
.. هذا والله تعالى أعلى والله أعلم.

أنس فرج محمد فرج