منذ سنوات جمعني العمل بدكتور لبناني يدعى عادل مراد، عمل لفترة قصيرة مديرا لمشروع الكلية الوطنية للعلوم والتكنولوجيا في صلاله خلال مرحلة التأسيس في عام 1998. كنت حينها أعمل مسؤولا لشؤون الطلاب في تلك الكلية التي تطورت لاحقا إلى جامعة ظفار. كان شخصا مرحا، محفزا جيدا، يعمل بروح الفريق، ويبث حماسه في الموظفين والطلاب والمجتمع. وكان يركز على تحقيق الأهداف، وكانت طموحات القائمين على تلك الكلية كبيرة وعاجلة في أول مؤسسة تعليم عالي خاصة تنشأ في محافظة ظفار. وقد تعود من وقت لآخر أن يسمع ملاحظات وتوجيهات في صيغة انتقادات من أعضاء مجلس الإدارة لبذل المزيد من الجهد والتركيز على الجودة. وكان يرد على تلك الانتقادات بعبارة ساخرة: نحن نعمل وغيرنا ينتقد! عرفت حينئذ أن النقد سهل، وأن التحدي الحقيقي هو العمل والإنجاز. تعلمت من مواقف الحياة المختلفة أن هناك صنفين من الناس؛ صنف يسخر حياته للعمل وتحقيق النتائج الملموسة، وصنف آخر يتخصص في النقد والهدم والبحث عن الأخطاء والهفوات وتضخيمها. ويكثر هذا الصنف للأسف في مجتمعنا. صنف يتكلم كثيرا وينتقد كثيرا ويعمل قليلا. الأشخاص الذين يندرجون ضمن هذا الصنف يعيقون حركة الحياة ويضعون العقبات في طريق التنمية، لا يسلم من لسانهم أحد، ويمتلكون قوائم من معايير ومراتب وصفات ومثالب يلصقونها على الآخرين في غيابهم. ويكثر هذا الصنف في مؤسسات العمل الحكومي، موظفون تقادم عليهم العهد وبعضهم يحمل شهادات ودرجات علمية، يجمعهم الفراغ مستغلين المرافق والمكاتب الحكومية ويسلطون ألسنتهم على كل شيء في مؤسساتهم، وهم بكل أسف لا يعلمون أنهم يرسلون شظى الكراهية والحقد إلى المؤسسات التي تطعمهم. يخبرني أحد الموظفين أن زميلا له كان من هذا الصنف، فقد نذر نفسه للنقد وإظهار أخطاء المسؤولين على مسمع ومرأى من الموظفين، وكان زملاؤه يستمعون إليه أحيانا وقد حولهم بمرور الأيام إلى أشخاص ثرثارين، وفاحت رائحة تصرفاته في المؤسسة، فاقترح أحد المسؤولين أن ينقل ذلك الموظف إلى وظيفة تنفيذية أعلى وتتاح له الفرصة أن يعمل بدلا من أن ينتقد حتى يظهر ابداعه إن كان لديه أو يكشف زيفه ويكون كلامه حجة عليه بدلا من أن يستمر كمعول هدم في تلك المؤسسة. وفعلا تم ذلك ورقي ذلك الموظف إلى وظيفة رئيس قسم وطلب منه أن يركز على العمل والانجاز، وأن المؤسسة في حاجة إلى كل فكرة مفيدة متقدمة وعملية. استلم ذلك الموظف عمله وصار ملزما باختصاصات ومكتب وخطة عمل ووضع على المحك؛ إما أن يعمل وإما أن يتخاذل وينكشف زيفه أمام مريديه الذين كان يشغلهم كل صباح بالقيل والقال والنميمة المهنية. وبعد فترة وجد ذلك الموظف نفسه غريبا في لجان وفرق عمل تتطلب منه التفكير خارج الصندوق وتقديم الحلول؛ لكن عقله كان فارغا وليس لديه ما يعطيه للمؤسسة. اكتشف أنه - من حيث لا يعلم - عالة على العمل، وأن راتبه الذي كان يتقاضاه لا يقابله عمل يؤديه، واستنتج كذلك أن معدل انتاجه اليومي كان صفرا. وبدون لفت نظر أو انذار أعاد تفكيره في كل شيء، وأدرك أن عليه أن يعقل وأن يعمل ويتدرب ويساهم في بناء المؤسسة بدلا من طعنها في ظهرها.
الناس ليسوا ملائكة، نحن لا نعيش في طوباوية افلاطون كما أننا لسنا مواطنين في المدينة الفاضلة. نحن بشر، وكلنا أخطاء، ولكن الأخطاء والمعاصي تختفي متى انشغلنا بالعمل وتحررنا من ملاحقة الأخطاء والسلبيات.

د. أحمد بن علي المعشني
رئيس مكتب النجاح للتنمية البشرية