”... كوريا الشمالية تستفيد من موقعها الجغرافي أقصى استفادة ولعل ذلك هو أحد أسباب عدم رضوخها لغطرسة الولايات المتحدة وحلفائها. وذلك انها اولا تشاطر كوريا الجنوبية الحدود. والعلاقات بينهما متأزمة في أغلب الأحوال من بدايتها، عندما احتلت اليابان شبه الجزيرة الكورية بعد الحرب الروسية - اليابانية عام 1905. وظلت شبه الجزيرة الكورية تحت السيطرة اليابانية حتى هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية.”

شهدت كوريا الشمالية تاريخا طويلا من الحروب والصراعات بشكل صبغ سياساتها بالخوف والشك وعدم الثقة في أي أحد عدوا كان أم شقيقا أم صديقا. ولعل هذا الخوف والشك هو ما يدفعها الى القيام بتصرفات ينظر اليها الخارج على انها استفزاز ومحاولة فرد عضلات، وإن كان مردها ذلك الخوف والشك وعدم الشعور بالأمان. ولعل الأحدث في ذلك إدراجها ضمن محور الشر الذي اعلنه الرئيس الأميركي السابق جورج بوش عام 2002، واعلان بيونج يانج مؤخرا عدم تخليها عن برنامجها النووي حتى لا يكون مصيرها مصير العراق وليبيا وغيرهما.
ويؤكد هذا التوجه الاعلان يوم الاحد الماضي عن اطلاقها صاروخا طويل المدى يرى خبراء دوليون أنه غطاء لاختبار صاروخ باليستي عابر للقارات. ويعتقد ان الصاروخ الذي تم اطلاقه يصل مداه إلى أكثر من 10 آلاف كيلومتر. وهو ما يعني إمكانية وصوله إلى الأراضي الأميركية. واطلاق هذا الصاروخ هو تتويج لمحاولات عديدة من قبل بيونج يانج في هذا الاتجاه من بينها: اجراء اول تجربة نووية عام 2006، والتي رد عليها مجلس الامن الدولي بفرض عقوبات تجارية ومنعها من استيراد تقنية الصواريخ الباليستية. وفي 2009، اجرت تجربتها النووية الثانية ليتبنى مجلس الأمن عقوبات اكثر صرامة من بينها اعتراض سفنها. وفي ديسمبر 2012، اعلنت عن اطلاقها صاروخ ووضعها قمرا صناعيا في الفضاء. وأدان المجلس العملية ووسع من تجميد الأصول وحظر السفر على العديد من المنظمات والأفراد في كوريا الشمالية. وفي 2014، اطلقت صاروخين باليستيين حلقا لنحو 650 كم قبل سقوطهما في البحر شرق شبه الجزيرة الكورية. وفي 2015، اعلنت استئناف العمليات في المفاعل النووي في محطة يونجبيون بعد اجراء تجديدات فيها. وفي يناير الماضي، اعلنت عن اختبار قنبلة هيدروجينية في رابع اختبار نووي من نوعه.
في الواقع فإن كوريا الشمالية تستفيد من موقعها الجغرافي اقصى استفادة ولعل ذلك هو احد اسباب عدم رضوخها لغطرسة الولايات المتحدة وحلفائها. وذلك انها اولا تشاطر كوريا الجنوبية الحدود. والعلاقات بينهما متأزمة في أغلب الاحوال من بدايتها، عندما احتلت اليابان شبه الجزيرة الكورية بعد الحرب الروسية - اليابانية عام 1905. وظلت شبه الجزيرة الكورية تحت السيطرة اليابانية حتى هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية. ولا تزال العلاقات بين كوريا الشمالية واليابان متوترة في اغلب الأوقات. كما ان العلاقات بين كوريا الجنوبية واليابان فاترة في الغالب جراء الإرث الاستعماري البغيض. وبعد ذلك، قام السوفييت والأميركان بتقسيم كوريا إلى منطقتي احتلال، خضعت كوريا الشمالية لحكم الاتحاد السوفيتي في الوقت الذي خضعت فيه كوريا الجنوبية لحكم الولايات المتحدة. ثم رفضت كوريا الشمالية الاشتراك في انتخابات الجنوب عام 1948 بإشراف الأمم المتحدة، الأمر الذي أدى إلى إنشاء حكومتين منفصلتين في الكوريتين المحتلتين. ثم ادعت كلتا الكوريتين أحقيتها بملكية شبه الجزيرة الكورية ككل. الأمر الذي أدى إلى الحرب الكورية عام 1950، الى ان تم الاتفاق على هدنة عام 1953 أوقفت القتال. وان كان البلدان لا يزالان في حالة حرب رسمية، لعدم توقيع معاهدة سلام بين الطرفين حتى الآن. وفي عام 1991 تم قبول الدولتين في الأمم المتحدة. وفي 26 مايو 2009، انسحبت كوريا الشمالية من جانب واحد من الهدنة. ويسيطر التوتر على العلاقات بين الجانبين في اغلب الاحيان والتي تصل في مرات كثيرة الى حد التلويح بالحرب. فبيونج يانج تدرك أن كوريا الجنوبية في موقف ضعف، ومرد ذلك انها اقامت نهضة صناعية هائلة تحقق لها مزايا اقتصادية كبيرة على مستوى العالم. فهناك مصانع السيارات والماكينات والادوات الالكترونية وغيرها المنتشرة في كوريا الجنوبية والتي تمثل كل رأسمالها وبالتالي فهي تخشى من الانجرار الى اي نزال عسكري مع الجار الشمالي يترتب عليه بالضرورة تدمير الكثير من معاقلها الصناعية الثقيلة، بما يمثل عواقب كارثية عليها. في الوقت الذي ليس لدى بيونج يانج ما تخاف عليه. وبالتالي فإن كل ما تتخذه سيئول من ردود افعال هو محاولات لتهدئة الرأي العام الكوري الجنوبي وتصدير تلك الاستفزازات للعالم الخارجي من قبيل الرد بإجراء مناورات عسكرية مع القوات الاميركية أو استصدار بيانات ادانة وتنديد من قبل مجلس الأمن وغيره.
ومما يفاقم الوضع بالنسبة للولايات المتحدة حليفة الشقيق الجنوبي، تمركز نحو 30 ألفا من القوات الاميركية في كوريا الجنوبية لحمايتها. وهذا يعني ان تلك القوات تقع في وجه مدافع بيونج يانج وفي مرمى نيرانها. هذا في الوقت الذي تقدر فيها الولايات المتحدة الجيش الكوري الشمالي على انه رابع اكبر جيش في العالم. اي ليس بالقوة الهينة ومن ثم فإن إجراءه لتجارب نووية واطلاقه صواريخ يغطي مداها كوريا الجنوبية واليابان حليفي أميركا في شرق اسيا، يجعل القوات الاميركية تفكر ألف مرة في اي تحرك يؤدي الى استفزاز ذلك المارد الغريب الاطوار والذي يبدو كما لو كان يعيش في عالم او كوكب آخر من حيث العزلة والسرية بشكل يجعل من الصعب ان لم يكن من المستحيل التكهن بأفعاله او ردود أفعاله.
كما تجاور كوريا الشمالية الصين التي لم ولن تسمح بطبيعة الحال بأي تحرك اميركي على حدودها وذلك لشكوكها العميقة في السياسات الاميركية في شرق اسيا حيث تتعارض بل وتتصادم المصالح والتحركات العسكرية بين البلدين الكبيرين. بل ان الصين قد تستخدم الاستفزاز الكوري الشمالي لاميركا وحلفائها في صالحها في اطار صراعات المصالح في المنطقة. ويأتي اعتراض بكين القوي على الاعلان عن اجراء محادثات رسمية بين سيئول وواشنطن لنشر نظام دفاعي أميركي مضاد للصواريخ في شبه الجزيرة الكورية ردا على اجراء بيونج يانج الاخير، بمثابة تأكيد للشكوك الصينية القوية في السياسة الاميركية، حيث تعتبر بكين ان نشر هذا النظام موجه اليها.
فضلا عن ان الصين لا ترغب في زعزعة استقرار او انهيار النظام الحاكم في بيونج يانج لان ذلك يمكن ان يترتب عليه نزوح ملايين من الكوريين الشماليين الى داخل الاراضي الصينية مما يزيد من أعبائها.
كما تقترب كوريا الشمالية من روسيا من خلال الجزء الشرقي من نهر تومن الذي يفصل بينهما في حدود قصيرة في أقصى الشمال الشرقي ليصب بعدها في بحر اليابان الذي يحدها شرقا. وهنا ينطبق نفس الامر بالنسبة لروسيا المستاءة من تمدد حلف الاطلسي(الناتو) شرقا ليصل الى حدودها الغربية. فهي لا ترغب ولا ترضى بأي حال عن تحرك اميركي على حدودها. ومن ثم فهي حتى ان اتخذت مواقف معلنة من قبيل التنديد بالتصرفات الكورية الشمالية، الا انها لن تسمح بأي اعتداء عليها من قبل القوى الغربية. بل ان روسيا بحكم كونها قوة كبرى تحاول استغلال الملف الكوري الشمالي في صراعاتها السياسية مع الولايات المتحدة والغرب وتحقيق اقصى مكاسب منه.
أي ان جوارها مع الصين وروسيا يمثل حاضنة لها وحائط صد في وجه اي تحركات عدوانية عليها من قبل الولايات المتحدة وحلفائها. وبات معلوما ان الردود على التصرفات والاستفزازات الكورية الشمالية لن تتجاوز التنديد والعقوبات في الوقت الذي لا يوجد فيه من الاساس علاقات قوية لكوريا الشمالية ببلدان العالم الأخرى يمكن ان تتضرر بشكل كبير من تلك العقوبات. ومرد ذلك انها تعتمد سياسة الاعتماد على النفس والاكتفاء الذاتي وسد احتياجاتها عبر حدودها مع الصين التي تعتبر أكبر وأهم شريك تجاري معها.
يبدو ان بيونج يانج باتت تدرك حقيقة مواقف وحدود وقدرات الجوار وأميركا وحلفائها. وتتعاطى مع ذلك بهذا القدر من التحدي لعلمها بما في جعبة الآخرين. في الوقت الذي تشكل فيه عملية اطلاق الصاروخ الأخير والتي تخالف عددا من قرارات الأمم المتحدة، تحديا جديدا للمجتمع الدولي الذي لا يزال يدرس طريقة لمعاقبة بيونج يانج بعد تجربتها النووية الرابعة في 6 يناير المنفك. بينما ترى بيونج يانج ان الامر لن يتجاوز بيانات الشجب والادانة والتنديد المعتادة.


السيد عبدالعليم
مترجم وباحث سياسي
[email protected]