‏[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/abdellatifmhna.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]عبداللطيف مهنا كاتب فلسطيني [/author]
لا التقتيل ولا "التغليف" ولا "قيودهم المتنفسة" سوف توقف انتفاضة، أو تمنع مقاومة هي مسألة وجود بالنسبة لشعب ليس لديه ما يخسره. وهنا، تصل المفارقة حدود الكوميديا السوداء عندما يتلقف الأوسلويون حديث المؤتمرات، أو يصفِّقون لهمهمات بان كي مون التي لا تعبر عن صحوة ضمير، ولا يأخذها أحد على محمل الجد لسرعة عودته عنها عادةً إن لزم الأمر..

ترعب "استراتيجية الانفاق" الفلسطينية مستعمري المستعمرات المحيطة بقطاع غزة المحاصر. لطمأنتهم زارهم نتنياهو واعدًا إياهم بأن حكومتة تعد مشروعًا لتغليف كامل الكيان الصهيوني "بجدار أمني" لحمايته ممن وصفهم بـ"الوحوش الضارية في محيطنا". تحدث عن جدار تقرر على طول الحدود مع الأردن، مثيلًا لما تم على الحدود مع مصر...قال لهم: "سيقولون لي ماذا تريد أن تفعل؟ هل تريد أن تغلِّف البلد بسياج وجدران وعقبات...وأقول لهم دون تردد نعم"، وغادرهم تاركًا لهم سؤالًا لا من جواب لديهم عليه هو: وماذا لو حفر الفلسطينيون الأنفاق تحت جدرانك وسياجاتك وعقباتك؟!
"استراتيجية الانفاق" ليست هم الصهاينة الوحيد هذه الأيام، بل هي إضافة على الحساب لهموم راكمها العناد النضالي الفلسطيني، وعلى رأسها ما يدعونه "إرهاب الأفراد"، كآخر توصيفاتهم للانتفاضة الفلسطينية الراهنة، هذه التي جعلت من الأمن مسألةً شخصية بالنسبة لكل فرد في تجمُّعهم الاستعماري الاستيطاني، وأصبحت مسألة مواجهتها مثار جدلهم وخلاف اجتهادات بين مستوويهم السياسي والأمني، يبدو أنهم الآن يقتربون من محاولة جسره، وهو ما سنعرض له لاحقًا.
منذ اندلاع الانتفاضة وحتى الآن، لا يزال الصهاينة يتعاملون معها بردة فعل المتفاجئ المرتبك، وعقلية الحاقد المنتقم، وسياسة الحائر المسقط في يده، ذلك لعجزهم عن وأدها، ويأسهم من قدرتهم المنظورة على إيقافها، لا سيما وهم لا يواجهون تواصلًا لإيقاعاتها النضالية اليومية ومحافظتها على ذات السوية فحسب، بل يلحظون إرهاصات لتطور وتعدد وتعقُّد ما تبتكره من أشكال وأدوات نضالية في مواجهتهم...على مدى الأشهر الخمسة من عمرها، لم يحصد انفلات آلة بطشهم الهائجة وعتوُّهم الدموي المتوحِّش إلا فشلًا في فل إرادة فتية وفتيات صمموا على مقارعة عدوهم. عدو هو إلى خبثه يجتمع له فجور القوة وانتقام الحاقد، وفوقهما رعب المجرم الذي تخيفه عاقبة ما اقترف، وبالتالي يقلقه مجرد وجود ضحيته...ولأنها انتفاضة عصية على الإخماد يفقد الصهاينة توازنهم...
كل فلسطيني الآن يلتقونه في الشارع هو مشتبه به، ومشروع شهيد إذا ما وضع يده في جيبه أو اقترب منهم. الشهداء يرتقون إلى الخلود يوميًّا ويتم اعتقالهم بعد استشهادهم، أما الجرحى ولأسرى فحدِّث ولا حرج، الاعتقالات بالجملة والمفرَّق. سمَّنوا معتقلاتهم فبات فيها الآن ما يزيد على الستة آلاف، أضافوا إليها 450 طفلًا، و29 معتقلةً، منهن 11 قاصرات تتراوح أعمارهن بين الحادية والسابعة عشرة...حتى الآن مر عليها من الفلسطينيين 800,000...ما الفارق، فلسطين كلها باتت معتقلًا وكل فلسطينييها معتقلون.
منذ البدء لاقوا الانتفاضة بزيادة مناسيب التقتيل والتنكيل والانتقام والتعاون الأمني مع أجهزة "اوسلوستان" الدايتونية لوقفها، وأقله محاصرتها، وكله مع تسريع محموم في وتيرة التهويد...وإذ حصادهم لوأدها كان الفشل، نأتي إلى ما أشرنا إليه من اختلاف عندهم في الاجتهادات في مواجهتها قلنا إنهم قد اقتربوا من جسره. إنه ما بشَّر به الجنرال يوآف مردخاي، الذي وصفه صائب عريقات مؤخرًا برئيس "فلسطينه" الفعلي، من اعتمادهم خطة لرشوة الفلسطينيين للتخلي عن انتفاضتهم، تقضي بالتصريح لثلاثين ألفًا من العمال في الضفة بالعمل داخل المحتل في العام 1948! بمعنى العودة إلى تبني وصفة نفتالي بينت المبكرة بعيد اندلاع الانتفاضة لإيقافها، القائلة بـ"توسيع نطاق إدخال عشرات الألوف من الفلسطينيين في دائرة العمل في إسرائيل لتجنُّب انحرافهم نحو المشاركة في نشاطات الانتفاضة"! وكله بالطبع مرورًا بـ"الشاباك" وبعد موافقته على من سيسمح لهم. مثله ما طالب به بعده رئيس الأركان ايزنكوت، وقال بمثله مؤخرًا وزير الحرب يعلون... خطة مردخاي يدعونها بـ"القيود المُتنفِّسة"...اضطروا لأن يتناسوا أن عمليتين فدائيتين نُفذتا حتى الآن داخل المحتل عام 1948 ومن قبل شهيدين يعملان في ظل قيود لم تك تختلف كثيرًا عن مثل هذه "القيود المُتنفِّسة"!
إلى جانب مواصلة التقتيل أولًا، و"التنسيق الأمني" الدايتوني ثانيًا، ورشوة "القيود المتنفِّسة" لاحقًا، يأتي دجل مؤتمرات الحلول الدولية الملَّوح بها، والتي هي حتى ولو عقدت فلن تكون من غير جنس سلفها "أنابوليس"، أو سائر الهمشرات الفرنسية التي تطوى عادةً قبل صياح الديك الأميركي، أو كل هذا الضحك على الذقون المنهزمة واللعب الخبيث في الوقت الضائع... ما يريده الغرب، ودائمًا، هو تقطيع للوقت بالتهدئة وخفض التوتر، ومنع انهيار السلطة، وكله لأجل عيون إسرائيله ويخدم استراتيجيتها التهويدية.
لا التقتيل ولا "التغليف" ولا "قيودهم المتنفسة" سوف توقف انتفاضة، أو تمنع مقاومة هي مسألة وجود بالنسبة لشعب ليس لديه ما يخسره. وهنا، تصل المفارقة حدود الكوميديا السوداء عندما يتلقف الأوسلويون حديث المؤتمرات، أو يصفِّقون لهمهمات بان كي مون التي لا تعبر عن صحوة ضمير، ولا يأخذها أحد على محمل الجد لسرعة عودته عنها عادةً إن لزم الأمر، ثم إن مثله ما كان ليجرؤ على ما همهم به لولا أنه يعد سنوات ولايته الأخيرة... ويكتمل المشهد عندما نسمع رئيس السلطة في لقائه مع الصحفيين في بيت لحم يقول: "التقيت كيري 42 مرة، علاوة على مئات المكالمات الهاتفية..لكن دون جدوى". وإذ يرجِّح عدم قدرة فرنسا على "فرض موقفها" على الولايات المتحدة، ذكَّرهم بأنه قبل 17 عامًا في "واي رفر" قد قبل بالولايات المتحدة، التي هي "ليست بنت عمي أو خالي"، حكمًا "لكن إسرائيل لم تكن تريد شاهدًا من أهلها"... ومع هذا، فهو "سيتابع ويلاحق" حديث المؤتمرات... ويواصل التنسيق الأمني!!!