أثار إعلان القيادة الفلسطينية عن نيتها وقف التنسيق الأمني مع دولة الاحتلال الإسرائيلي حالة من الجدل الشديد في الأوساط الفلسطينية، وموجة عاتية من التهديدات والمخاوف الإسرائيلية، فمنذ أن تحدث القيادي الفلسطيني واصل أبو يوسف، عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، عن نية القيادة الفلسطينية بإبلاغ دولة الاحتلال رسميًّا، بتحديد العلاقات الأمنية (وقف التنسيق الأمني)، والسياسية، والاقتصادية، بين السلطة الفلسطينية وكيان الاحتلال الإسرائيلي، حتى خرج علينا مسؤولون إسرائيليون بتهديد ووعيد، مثل الوزير الإسرائيلي زئيف إلكين الذي قال إن السلطة الفلسطينية "تدق مسمارًا آخر في نعشها"، مؤكدًا أن السلطة الفلسطينية تختفي تدريجيًّا عن الخارطة. فيما حذر مسؤول أمني إسرائيلي آخر من خطورة وقف التنسيق الأمني على الأوضاع الأمنية بالضفة المحتلة وأنه سيؤدي إلى تدهورها.
وترتكن المخاوف الإسرائيلية إلى حالة من الرعب تخشى من نجاح الفلسطينيين في استنساخ حركة المقاومة في غزة، وتجديد خيار المقاومة المسلحة المشروعة بشكل فاعل، وما يشكله ذلك من تهديد على الاحتلال الإسرائيلي، حيث ـ والكلام لا يزال على لسان قيادات إسرائيلية ـ إن التنسيق الأمني كان كفيلًا باستمرار اتفاقية أوسلو، التي شرعنت الاحتلال الإسرائيلي في القدس والضفة، كما أنها شكلت حماية حقيقية للكيان الغاصب، وهي فخ نصبه الاحتلال بمساعدة حلفائه، دون أن تؤثر على القضية الفلسطينية، فبشهادة الرئيس الفلسطيني محمود عباس نفسه، لم يلتزم كيان الاحتلال الإسرائيلي بأي اتفاقية وقعت بين الجانبين منذ توقيع أوسلو.
أما على الصعيد الفلسطيني فالانقسام حول التنسيق الأمني كان ولا يزال من أبرز العقبات التي تحول بين الفلسطينيين وبين المصالحة الشاملة، ففي حين يرى كثير من الفلسطينيين عدم جدوى التنسيق الأمني للقضية الفلسطينية، بل يراه البعض منحة مجانية تكافئ قوات الاحتلال الإسرائيلي وعصابات المستوطنين على إرهابهم، يرى البعض أن وقف التنسيق الأمني يتنافى مع الوظيفة البنيوية التي تم تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية على أساسها، وبالتالي كل ما يحدث لن يكون أكثر من تخفيض في عدد اللقاءات الأمنية وذلك تبعًا لأكثر السيناريوهات تفاؤلًا، مستندًا في ذلك إلى المعطيات الحياتية للواقع الفلسطيني، التي يملك كيان الاحتلال الإسرائيلي عبر أوسلو إيقافها تمامًا، من خلال أموال الضرائب والعوائد الفلسطينية.
إن ما سبق وما يحدثه كيان الاحتلال الإسرائيلي الآن من تغيير لحقوق الفلسطينيين على الأرض من تهجير وسرقة أراضٍ وإرهاب جنود، وإرهاب عصابات مستوطنين يضع القيادة الفلسطينية أمام حقيقة جلية، هي أن خطيئة أوسلو وما خلفته من واقع جديد، فرضه كيان الاحتلال الإسرائيلي، عبر إعطائه مزيدًا من الحركة في اغتصاب الحقوق الفلسطينية، بتنسيق يحيد خيار الكفاح الفلسطيني المسلح الذي تقره كافة الأعراف والمواثيق الدولية، وما صاحب ذلك من تحويل تبعات إدارة الضفة إسرائيليًّا كقوة احتلال إلى إدارة مدنية فلسطينية تقوم بعمل الإدارة المدنية الإسرائيلية التي لا تزال تسيطر على الوضع الفلسطيني.
يرى الكثير من المحللين أن أوسلو وما تبعها من اتفاقيات وتنسيقات بين السلطة وكيان الاحتلال، زادت من الشرخ الفلسطيني، وأعاقت إقامة رؤية فلسطينية واحدة تحمل العديد من الخيارات، ولا تهمل أيًّا من خيارات التحرر الوطني، وهذا ما فطن إليه المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية، حيث طالب بوقف التنسيق الأمني مع كيان الاحتلال الإسرائيلي، والمضي قدمًا في المساعي الدولية لنيل كافة الحقوق الفلسطينية، إلى جانب الاستمرار في مسيرة المصالحة الفلسطينية، ما سيتيح للفلسطينيين مساحة أكبر من التحرك بعيدًا عن واقع عربي أليم، وواقع عالمي متحيز، فكما عودتنا التجارب مع كيان الاحتلال الإسرائيلي، أن التغيير على الأرض هو ما يدفع الكيان المحتل نحو سلام عادل وشامل يعترف بكافة الحقوق الفلسطينية الموثقة بقرارات من مجلس الأمن، ويتحدث عن دولة فلسطينية ذات سيادة كاملة عاصمتها القدس الشريف.
ودون تلك المسارات الثلاثة (وقف التنسيق ـ وإتمام المصالحة ـ وفتح كافة الخيارات الفلسطينية نحو التحرير) ستظل القضية الفلسطينية محلك سر، وسيواصل كيان الاحتلال الإسرائيلي فرض إرهابه على أرض الواقع، وسرقة المزيد من الأراضي الفلسطينية، والتمادي في الإرهاب الاستيطاني، والتدنيس الممنهج للمقدسات والذي يسعى إلى عدم الالتزام بالتفاهمات التي جرت مع الجانب الأردني حول أعداد المستوطنين المدنسين للأقصى. أما من يتحدث عن أهمية أوسلو وما تبعها من اتفاقات على الاقتصاد الفلسطيني، فنود أن نذكرهم ببعض الأرقام التي أعلنها صندوق النقد الدولي، حيث أكد أن عام 2015 كان عامًا صعبًا على الاقتصاد الفلسطيني، وذلك بعد زيارة مندوبيه إلى الضفة الغربية المحتلة. وقال إن بطء وصول المساعدات والقيود التي يفرضها الاحتلال الإسرائيلي جعلت الوضع الإنساني كارثيًّا. كما أكد أن قيام حكومة موحدة في الضفة وقطاع غزة يشكل ضرورة لإعادة بناء الاقتصاد الفلسطيني، داعيًا إلى رفع الحصار الإسرائيلي. لذا على القيادة الفلسطينية التوجه بأسرع ما يمكن نحو مصالحة شاملة لا تضم حركة حماس فقط، ولكن كافة الحركات والفصائل الفلسطينية الرافضة لمسار أوسلو، أو التي رفضته بعد التطبيق، فبدون تلك الخطوات لن يكون للقضية الفلسطينية قدرة على الحلحة، وستظل الأراضي تُسرق، والمقدسات تُدنس، والحقوق الفلسطينية تُنتهك.