[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/khamis.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]خميس التوبي[/author]
الهجمة الأميركية ـ الأوروبية على روسيا على خلفية تعبير شعب شبه جزيرة القرم عن رغبته في عودة الجزء إلى الأصل، هي هجمة غير مبررة على الإطلاق ولا تستند إلى قانون دولي، بل إنها تخالف القانون الدولي بالوقوف أمام حرية شعب في التعبير عن رأيه واختيار نظامه السياسي بما يحافظ على استقلاليته وسيادته. كما أن شراسة الهجمة لتصل إلى فرض عقوبات اقتصادية تطول مسؤولين روسًا وأوكرانيين تبين مدى الانحطاط الأخلاقي الذي وصلت إليه القوى الامبريالية الاستعمارية الغربية بتدخلاتها السافرة في الشؤون الداخلية للدول وإثارة الفتن والحروب للهيمنة على مقدرات الشعوب ونهب ثرواتها، وتفضح في الوقت ذاته ما تتشدق به من قيم "الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان"، وأنها لم تكن سوى أدوات لتكريس التدخلات وبعثرة الدول وتفتيتها والاستيلاء على قرارها السيادي والمستقل، وترسيخ سياسة الانقلابات السياسية والعسكرية، على النحو الذي نراه في أوكرانيا من تدخل سافر في شأنها الداخلي عبر حفنة من العملاء والمرتزقة بالانقلاب على حكومة شرعية منتخبة، والإتيان بعملاء موالين للداعمين للانقلاب والمتدخلين في الشأن الداخلي الأوكراني، تمهيدًا لقلب التركيبة الجيوسياسية والديمغرافية لأوكرانيا بما يؤدي إلى سرعة الإنجاز في محاصرة الاتحاد الروسي من جميع الاتجاهات، ليس فقط لابتزازها حول ملفات مهمة وفاعلة وساخنة في مختلف مناطق العالم وتلعب فيها موسكو دورًا محوريًّا، وإنما لترويض روسيا لتكون مجرد تابع ومنفذ لسياسات القوى الغربية الامبريالية الاستعمارية على حساب مصالح الشعب الروسي.
وعلى الرغم من التبعية المطلقة لدى القوى الامبريالية الاستعمارية الغربية لإرادة كيان الاحتلال الصهيوني والداعمة لسياساته والعمل على تنفيذها، فإن هذه القوى لا تزال تتعامل بمنطقها القديم مع القوى الأخرى الصاعدة في العالم، متناسية أن التغيير من سنن الحياة، وتبدل الأحوال صفة ملازمة لهذا الكون الفسيح، وأن من كان بالأمس في ذيل صف الكبار قد يكون اليوم في منتصف الصف وغدًا في مقدمته.
وفيما يخص تعامل القوى الغربية الامبريالية مع دول العالم بما فيها الكبرى الصاعدة، واضح أنها تنطلق في تعاملها من تاريخها الاستعماري البائد، في حين أن منطق القوة اليوم يفرض التعامل على أساس ما تملك من سياسة متوازنة تحترم القانون الدولي، وترفض التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وتحترم إرادة الشعوب واختياراتها، بالإضافة إلى ما تملك من اقتصاد قوي نامٍ وقوة عسكرية لا يستهان بها، كما هو حال روسيا والصين ودول مجموعة البريكس.
ومثلما كشفت التدخلات العسكرية وحروب التدمير والاستعمار التي قامت بها القوى الغربية الاستعمارية الامبريالية ضد العراق زيف شعاراتها وخواء سياساتها من القيم والمبادئ، تكشف اليوم الأزمة الأوكرانية مدى التدني الأخلاقي والافتقار لأبسط معايير الاحترام للقوانين الدولية وسيادة الدول واستقلاليتها ولحرية الشعوب، وافتقار سياساتها للمصداقية.
اليوم ترعد وتزبد القوى الاستعمارية الامبريالية الغربية من موقف شعب شبه جزيرة القرم من التعبير عن رأيه بكل حرية عبر الاستفتاء النزيه الذي أجراه لاستقلال جمهوريته وبالتالي التمهيد لعودتها الكاملة لحضن الوطن الأم روسيا، متناسية هذه القوى كسبها الحرام من وراء سياساتها الرخيصة وارتكابها للعديد من الجرائم التاريخية بحق العديد من دول العالم وشعوبها، فهي إذ تُعْلي نبرة التهديد والوعيد لروسيا بسبب احترامها للقانون الدولي واحترامها لحرية شعب القرم، لا تستشعر أدنى حرج، بل تحاول طمس ذاكرة التاريخ بجريمتها في العراق الذي وعدته بأن يكون واحة للديمقراطية فإذا به ساحة للاقتتال الطائفي والفساد السياسي والمالي، وأقرب إلى التشرذم والانفصال بدلًا من الوحدة والوئام، وجريمتها في السودان بفصل جنوبه عن شماله، وتسعى إلى فصل غربه وشرقه، وجريمتها في أندونيسيا بفصل تيمور الشرقية تحت ذرائع كاذبة بافتعالها (أي القوى الغربية) نار الطائفية بين المسيحيين والمسلمين لتكون ذريعة لسلخها عن الوطن الأم أندونيسيا، وجريمتها في تشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا وتفتيتهما إلى دول، وفي البوسنة والهرسك، ومنحها كوسوفو الاستقلال رغم المعارضة الروسية والصربية. فإذا كانت هذه القوى الغربية الاستعمارية قد عملت بسياساتها الرخيصة على تفتيت تلك الدول الآنفة، فلماذا ترفض اليوم وحدة التراب الواحد وترابطه وعودة القرم إلى حضن الأم؟ ألم يحذر ديفيد كاميرون رئيس وزراء بريطانيا اسكتلندا من مغبة انفصالها عن المملكة المتحدة ومن فوز الـ"نعم" في الاستفتاء المقرر إجراؤه في الثامن عشر من سبتمبر 2014م، واصفًا الانفصال بـ"القفزة في المجهول"؟ ولماذا تعلو الأصوات في أسبانيا محذرة من تفكيكها وانفصال إقليم كتالونيا والباسك؟
إن العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة وأوروبا على روسيا على خلفية الأزمة في أوكرانيا واستقلال شبه جزيرة القرم، صحيح أنها تهدد بنشوب حرب عقوبات اقتصادية بعد العجز عن القيام بأي حرب عسكرية خاصة بعدما اكتشفت أميركا وأوروبا أن الحرب مكلفة وباهظة التكاليف ولا يقوى عليها الاقتصادان الأميركي والأوروبي، بل إن الحرب العسكرية هي التي أطاحت بهما، إلا أنه يبدو في الأفق أن الحرب الاقتصادية في طريقها إلى الفشل كما فشلت نظيرتها العسكرية، وبالتالي خسران الولايات المتحدة السلاح الاقتصادي الذي طالما ابتزت به دولًا وأبادت به شعوبًا، ذلك أن روسيا إذا ما رأت أنها في حاجة إلى الرد بالمثل فإن ردها سيكون موجعًا خاصة إذا ما أقدمت موسكو على مصادرة الأملاك والأرصدة والحسابات البنكية للشركات الأميركية، وشركات البلدان التي ستتعاون مع أميركا في تطبيق العقوبات، والأكثر إيلامًا إذا ما دخلت الصين على خط الإسناد بالتلويح أو المباشرة بسحب أجزاء من أرصدتها الهائلة من الولايات المتحدة، وطبعًا لن تكون الشركات الأوروبية بمعزل عن الآلام الموجعة في حال ألغت روسيا عقودًا في مجال التصنيع العسكري والتجارة، حيث ترتبط روسيا ـ على سبيل المثال ـ بعقود مع شركة فرنسية لشراء قوارب من طراز "ميسترال" حاملة للمروحيات وتقدر بالمليارات من اليوروهات. فروسيا دولة تصنيع عسكري وقد اكتسبت أسلحتها صيتًا واسعًا بالنظر إلى الفعالية والدقة في الأداء، وبالتالي ليست في حاجة إلى صناعات عسكرية من أوروبا، ما يعني أن روسيا قد وفرت في خزينتها تلك المبالغ التي يفترض أن تذهب للشركات الأوروبية. وأيضًا ماذا لو أقدم الاتحاد الدولي لكرة القدم "الفيفا" على سحب حق تنظيم بطولة كأس العالم من روسيا في العام 2018م، ألا يعني ذلك أن ما ستصرفه على تنظيم البطولة ستحتفظ به الخزينة الروسية؟ والأهم من كل ذلك أن هناك دولًا مرت بتجارب من العقوبات الاقتصادية الأميركية والأوروبية كالعراق وإيران وليبيا والسودان كوريا الشمالية وغيرها، فهل هذه الدول ماتت وانتهت؟ بل إن إيران على سبيل المثال رغم العقوبات الواسعة والمشددة استطاعت أن تجعل من فرض عليها العقوبات يتسول ويتذلل للجلوس والحوار معها، فأتى إليها خانعًا، فكيف الحال بدولة عظمى مثل روسيا الصناعية التي تمتلك الثروات الطبيعية الخائلة واحتياطيات ضخمة من العملة الصعبة وتتحكم في موارد الطاقة إلى أوروبا، وتمتلك آلاف الرؤوس النووية وتتمتع بقوة علاقات سياسية واقتصادية وعسكرية مع دول مؤثرة ومحورية في العالم؟
إن العالم يتغير ويسير نحو قطبية متعددة، والمشكلة هي أن القوى الغربية الاستعمارية غير قادرة على استيعاب هذا التغيير الذي بدأ من سوريا والقرم.