[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/tarekashkar.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]طارق أشقر [/author]
انشغل الأكاديميون طيلة العصور الماضية بعدد من القضايا والمفاهيم السياسية، وبالجدل بشأن أيهما أولى تحقيقه في مسارات التنمية هل التنمية الاقتصادية ام الاجتماعية، فجاءوا بمفهوم التنمية الشاملة. ولكنهم ربما لم يتوسعوا كثيرا في البحث عن علاقة السلع الاستراتيجية بالسياسة أي العلاقة المباشرة بين السياسة والاقتصاد ومدى تأثير كل منهما في الآخر، فهل هي طردية ام عكسية.
تاركين الأمر فيما يبدو إلى إعمال آليات السوق في التحكم في بيع وشراء السلع، وربما يكون ذلك اعترافاً بأهمية الدور الذي تلعبه آلية العرض والطلب في تحديد سعر اي سلعة مهما كانت أهميتها الاستراتيجية، مستندين إلى قدرة عنصر التسويق التجاري الناجح على تحريك السلع والبضائع من أرففها أو من مواقع استخراجها والدفع بها دفعا نحو المستهلكين الذين يكون لهم الرأي الفصل في الاقبال وعدمه على تلك السلعة وفقاً لمستوى جودتها، ومعقولية سعرها وقدرتها التنافسية التي تمكنها في النهاية من الحصول على حصتها التي تستحقها في السوق.
فقد ظل الأكاديميون والاقتصاديون طوال العقود الماضية على قناعة تامة بهذه الفلسفة في التداول التجاري والاقتصادي، الا ان الفترة الأخيرة التي سيطرت على الراهن الاقتصادي العالمي، احدثت قدراً من اللوثة المفاهيمية في الاقتصاد العالمي الذي كما يبدو اصبح منقادا للسياسة وكواليسها الخفية، وذلك بدلا من أن تنقاد السياسة إلى الاقتصاد الذي كان يؤمل أن يتحكم في دفة السياسة ويوجهها كما كان يعتقد الرأسماليون حتى فترة ما قبل انتهاء الحرب الباردة بسنوات قليلة.
لقد بدأت هذه اللوثة المفاهيمية في عالم الاقتصاد أكثر وضوحا من خلال ما شهده سوق النفط العالمي من حالة لعدم الاستقرار والتراجع الشديد الذي شهدته أسعاره مؤخرا وذلك بسبب غير خفي على المراقبين والاقتصاديين وهو زيادة المعروض من النفوط التي أدت الى حدوث تخمة في الأسواق.
ورغم تلك التخمة كانت منظمة الدول المصدرة للنفط الأوبك تصر على عدم الأقدام على تخفيض مستويات الانتاج السائدة، وذلك حرصا منها على مستويات حصصها في السوق النفطية، حيث أبدت بهذا الحرص على الحصص تخوفاً افتراضيا أو معلنا من استحواذ نفوط أخرى على تلك الحصص كالنفط الصخري الأميركي وغيره من النفوط التي تمكنت الصين من انتاجها من مجاهل القارة الأفريقية خارج نطاق منظمة الأوبك والرملي الكندي، بالاضافة إلى حالة التحسب من عودة دول سجلت غيابا طويلا في الأسواق مثل إيران، وربما ليبيا في المستقبل غير المرئي وغيرها من دول منتجة أخرى ومتأثرة بحروب دائرة فيها أو حولها الآن.
الحال على هذا المنوال فقد ظل كثير من الاقتصاديين يراهنون على آلية السوق ومدى تمكنها من تصحيح المسار عاجلا أم آجلاً وفقا للعرض والطلب، مقاومين بتلك القناعة أهمية الأخذ بمبدأ التحكم في الانتاج ولو بكلمة او وعد، وذلك باعتبار أن ذلك التحكم في الانتاج سيؤثر في مستوى العرض والطلب بالتالي الدفع بالأسعار نحو الارتفاع ... فقد استمر الأمر على ما كان عليه حتى جاء اجتماع الدوحة الأخير في الأسبوع الماضي ، حيث اتفقت كل من المملكة العربية السعودية وروسيا وفنزويلا وهم من كبار منتجي النفط في العالم بالإضافة إلى دولة قطر، اتفقوا على ( تجميد ) انتاجهم من النفط عند مستوى يناير ، رابطين ذلك بالتزام منتجين آخرين .
وما أن أبدت إيران موافقة مبدئية دون التزام واضح مع تصريحات ايجابية من العراق في هذا الشأن، فسرعان ما تأثرت أسعار النفط ارتفاعا ولو قليلا إلا أنه كان واضحا في بعض الصفقات الآجلة حتى قبل أن يبدأ القرار في التنفيذ، بل حدث ذلك الصعود الايجابي لمجرد كلمة وتصريح وترحيب وإبداء حسن نية ناتج عن توافق منتجين لإحدى أهم السلع الاستراتيجية في العالم .. ... كل هذا يرجح ما ساد من اعتقاد بين المراقبين بأن (النفط سياسة ) وليس مجرد سلعة استراتيجية تحكمها آليات السوق بشكل أساسي .
بهذا التأثير السريع في سوق النفط وإن كان غير دائم ، ترتفع الأصوات للمطالبة بالتنظير المنهجي بشكل أوسع في مجال الاقتصاد السياسي وكيفية تقنين علاقة السياسة بالاقتصاد، ومدى إمكانية الفصل بينهما، وذلك حتى لا تتأثر الدول المنتجة للمواد الخام الأساسية بتداعيات ما قد يحاك من تكتيكات سياسية خلف الكواليس، راجين أن تظل للاقتصاد قدسيته ليحكم نفسه بآلياته المعروفة دون أن يصبح مطية للدهاء السياسي والتجاذبات السياسية من وقت لآخر.