[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/suodalharthy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]سعود بن علي الحارثي[/author]
ثامنا ً: قرية العلياء بولاية العوابي .
” يعيش العماني هنا بعيدا عن صخب الحياة وضوضائها وتقلباتها المفاجئة وضغوطاتها المتتابعة في نمط معيشي منظم ودقيق لا يتعدى أداء الشعائر الدينية والروحية في المسجد والاجتماع بسبلة القرية لمناقشة موضوعات تتعلق بالحصاد والأفلاج وتفاصيل ما جرى في اليوم والأمس وتبادل الأخبار والعلوم والمشاركة في المناسبات وقضاء بضع ساعات في البستان لمتابعة والقيام بالسقي وتعهد الأرض والزراعة والحصاد ...”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

من مدخل مركز ولاية العوابي أو ( سوني) في العصر القديم, والتي تقع بين ولايتي الرستاق ونخل السياحيتين انحرفنا باتجاه وادي بني خروص, تفردت هذه الولاية العريقة بتاريخها المجيد وأرثها الحضاري الضارب في أعماق الماضي بإعداد الأئمة والعلماء وتهيئتهم لتقلد مسئولياتهم في قيادة الأمة وجمع كلمتها وتحقيق تطلعاتها وإصلاح أحوال البلاد والعباد وحماية رسالة الإسلام والدفاع عن العقيدة. وقد أنجبت قبيلة بني خروص التي احتفظت بموقعها ومكانتها وثقل مركزها في ولاية العوابي عشرات الأئمة هذا فضلا عن العلماء الكبار والمشائخ الأجلاء وأهل الفضل والصلاح الذين سطرت كتب التاريخ والسير والأدب والفقه سيرهم وأحداث عصرهم ومآثرهم, وتكفينا سيرة الوارث بن كعب ثالث أئمة عمان, الحافلة وتضحياته العجيبة وإيمانه الراسخ وكراماته الكبيرة التي رافقته منذ أن ارتحل من قريته (الهجار) حتى عقدت له الإمامة في نزوى فقام بمسئولياته وواجباته خير قيام, وآخر تلك التضحيات استشهاده في فيضان نزوى وهو يجتهد في انقاذ السجناء من الغرق بعد أن قال كلمته المشهورة (( هؤلاء رعيتي أمانتي في عنقي)), والإمام الصلت بن مالك الخروصي وقصته المشهورة مع المرأة السقطرية الزهراء التي استنجدت به أن ينقذ بلادها وأهلها من الغزاة (( قلل لإمام الذي ترجـى فضائلـه* بـأن يغيـث بنات الدين والحسـب )) فجمع الجيوش وجهز المراكب فولى عليهم محمد بن عشيرة وسعد بن شملال, وكان اجمالي المراكب التي اجتمعت مائة مركب فنصرهم الله عليهم فاخذوا البلاد وهزموا الأعداء ورجعوا ظافرين مستبشرين. وهكذا كان تاريخ الأئمة في عمان حافل بالتضحيات وأداء الواجبات والقيام بالمسئوليات الدينية والدنيوية والدفاع عن العقيدة وتراب الوطن ... من مركز ولاية العوابي ومن على مدخل وادي بني خروص وبين البساتين الجميلة والأحياء السكنية الحديثة والأزقة والبيوت القديمة التي تنبعث من جدرانها وغرفها ومناديسها المزخرفة وشرفاتها المطلة على السوق القديم تنبعث رائحة الماضي معتقة بالبخور الظفاري ممزوجا بروائح الطين والجص ... أوصلنا الطريق إلى حصن العوابي البديع ذي الهندسة المعمارية الفريدة والذي اختزل في بنائه وشكله الجميل وحفاظه على هيئته قدرة الأوائل من العمانيين وبراعتهم المعمارية في تشييد وإقامة الحصون والقلاع والمدن والقرى التي تتميز بتخطيط فريد وجودة في العمل ...فتحت لنا الجبال العالية التي تطاول قممها الغمام أحضانها, وعبر مدخل يضيق تدريجيا كلما تعمق الطريق الذي شق بعناية وهندسة بارعة كانت قرى وادي بني خروص تظهر بشكل مفاجئ من خلف الجبال ويرى بعدها من مكان أبعد وفقا لموقعها المطل على مجرى الوادي الرئيسي والتصاقها ب أو انفصالها عن تلكم الجبال الشاهقة ... وكانت الأبراج الجصية على حالها كما تركها من أنشأها تقف موقف المدافع اليقظ وكان عيني حارسها لاتزال تراقب كل متطفل أو عابث يريد شرا بتلك القرى وأهلها ومدفعها المتحفز ينتظر الأذن للانطلاق نحو الهدف, وكانت سواقي الأفلاج تشق طريقها عبر الجبال تحمل في أحشائها الحياة إلى البساتين العامرة والأحياء السكنية مؤكدة على براعة العماني وقدرته على تسخير الإمكانات وتحقيق المعجزات لكي يعيش بكرامة وازدهار في أصعب الظروف وأعقد المواقع وأقساها ...
يعيش العماني هنا بعيدا عن صخب الحياة وضوضائها وتقلباتها المفاجئة وضغوطاتها المتتابعة في نمط معيشي منظم ودقيق لا يتعدى أداء الشعائر الدينية والروحية في المسجد والاجتماع بسبلة القرية لمناقشة موضوعات تتعلق بالحصاد والأفلاج وتفاصيل ما جرى في اليوم والأمس وتبادل الأخبار والعلوم والمشاركة في المناسبات وقضاء بضع ساعات في البستان لمتابعة والقيام بالسقي وتعهد الأرض والزراعة والحصاد ... حياة جميلة هادئة سعيدة لا تنقصها الحرية والإرادة, ليس في قاموسه اليومي بحث مضن عن وظيفة مكتبية ولا منافسة على ترقية أو منصب ولا صراع على حفنة من المال, لا وجاهة ولا مظاهر تعبث بعقله وقيمه وسلوكه. عرف حقيقة الحياة وعرفته عن قرب دون رتوش أو مساحيق تجميلية , بين الجبال والأودية وفي الصحارى المفتوحة يعيشون في واحات جميلة شعارهم الحب والكرم والتفاني يتشاركون الهموم والسعادة, الخير والشر, الشبع والجوع, وجدوا أنفسهم هنا كما كان آباؤهم وأجدادهم منذ مئات السنين يعرفون نسب وحسب وأخلاق ومستوى كل واحد فيهم وارتباطاته بالماضي وتاريخه, ممن تزوج جده ووالده ومن هم أبناؤه وبناته ومن أخوالهم والظروف والأحداث التي مرت بها الأسرة . كل شيء على طبيعته وحقيقته وجمالياته ... أطلت قرية العلياء التي تحيط بمجرى وادي بني خروص من كل جانب وتقع على المصب أو المنبع الرئيسي لشلالاته وعيونه, من على أسفل الوادي ترتفع القرية تدريجيا إلى الأعلى لتصل إلى المرتفعات والسفوح الجبلية المحيطة بها تحميها قمم الجبل الأخضر وأخاديده وسلاسله وأجزائه من أكثر من مكان فهي محصنة بفضله وتمتد طوليا ما يقارب بين ثلاثة إلى أربعة كيلو مترات وتتوزع بين جبل وسهل وواد. يخترق الطريق الجديد الحارات القديمة في أزقة ضيقة تنبعث من مبانيها الطينية رائحة الماضي الزكية لتطرح على السائح والزائر عشرات الأسئلة , عن شكل الحياة في هذه القرى وأنماطها وأسباب اختيار المؤسسين لها هذه المواقع ووسائل وأدوات البناء ومشاقه في العهد القديم , ومراحل التطور الذي مرت به والصراعات والمحن وسنوات الرخاء وكيفية التعامل معها والتغلب عليها , الهجرات منها وإليها والأقوام الذين تعاقبوا عليها ...أوصلنا الطريق إلى قعر الوادي حيث المياه المتدفقة والأشجار الوارفة والنسمات العليلة والروائح العطرية المنبعثة من البساتين والأجواء الهادئة المطمئنة ... في موقع منعزل ومناسب اخترنا بكل عناية مكان إقامتنا الذي استمر لبضع ساعات يشنف أسماعنا خرير الماء وزقزقة العصافير ...أكلنا وشربنا واستمتعنا بالمناظر الخلابة وجمال الطبيعة وتنوع أشجار البساتين من حمضيات بأنواعها وعنب ومانجو , وأخذنا جولات عديدة في أرجاء المكان ... ومن موقع مرتفع وصلناه عبر طريق سياحي معبد بمئات السلالم بدت قرية العلياء أسفل منا بواحات نخيلها وبساتينها الخضراء ومنازلها الطينية ومعالمها التاريخية وأبراجها الحصينة ومآذن مساجدها التي تصدح خمس مرات في اليوم بكلمة الحق وموقعها الاستراتيجي مهيبة وجميلة. هنا في هذه القرية ما زالت آثار ( بيت الرأس) الذي بناه الشيخ الرباني العلامة (الرئيس) أبي نبهان جاعد بن خميس الخروصي شاهدة على عصر مشرق بالعلم والمعرفة والتأليف وآثار أخرى عديدة ( بيت الصاروج الذي بناه الإمام سيف بن سلطان اليعربي, وبيت الخطمة الذي بني على صخرة عتيدة , وبيت صنعاء ...). هنا في هذا المكان المطل على العلياء جمعت من حوالي أسرتي لنتمعن جميعا في المشهد ونتعمق في تفاصيله الدقيقة وأجزائه المتداخلة ونتناقش ونتبادل الرؤى والملاحظات ونطرح الأسئلة, من الذي وضع خارطة هذه القرية ومن اختار موقعها ومن صممها بهذا الشكل الجميل بحيث لم يترك شيئا للمصادفة ؟ من هم الذين سكنوها في بداية عهدها ؟ وهل أبناء اليوم هم أحفاد الأمس أم أن الخارطة السكانية تغيرت مرات ومرات ؟ ما هي الأحداث المثيرة التي مرت بها قرية العلياء الآمنة المطمئنة في أحضان جبال شماء؟ ما هي الوسائل والأدوات التي استخدمت في بناء ذلك البرج الحصين في قمة الجبل ؟ وكيف حفرت سواقي الفلج وقنواته في هذا الموقع الصلد وكيف طوعت هذه الحجارة الصماء وشق بعضها لتتمكن الساقية من العبور بيسر ودقة وهندسة متقنة تحمل المياه إلى بيوت ومزارع ومساجد القرية؟ وتلك النخيل والبساتين والمدرجات الزراعية كيف استصلحت وهيأت وتم غرسها ؟ وتلك النخلة التي تطاول الغمام كيف يصعد المزارع إلى قممها للتنبيت والخراف؟ بل إن السؤال الأعجب من ذلك كيف أمكن الوصول إليها بسهولة ويسر في اليوم عدة مرات مع الصعود والهبوط الحادين وبعد المسافة بين الواحة الزراعية والمنطقة السكنية ؟ هل توجد آثار وحيثيات يمكنها أن تقدم إجابات على أسئلة كثيرة تحتاج إلى بحث وتنقيب ودراسات متخصصة؟ إنها العزيمة والتضحية وحب الحياة والأمل والطموح كلها تصنع المعجزات. قفلنا راجعين من حيث أتينا وتلك المشاهد لم تبارح مخيلتنا والأسئلة وما يتبعها من نقاش لم تتوقف حتى بعد أيام . يحتاج أبناؤنا إلى هكذا زيارات ورحلات تستكشف عمان وطبيعتها الخلابة وتقدم لهم انجازات الآباء وجهودهم الكبيرة وعطاءهم المتجدد.
سعدت كثيرا بعد رحلتنا إلى العلياء بأيام وأنا أتصفح إحدى الجرائد المحلية بهذا الخبر السعيد والذي جاء تحت عنوان (( أهالي قرية العلياء بوادي بني خروص يؤسسون شركة لإدارة الخدمات السياحية )) . تمنيت أن يحذو أبناء القرى والمواقع السياحية حذو أهالي قرية العلياء فيؤسسون شركات ومشاريع تخدم هذا القطاع وتعزز الثقافة السياحية في أوساط المجتمع.