تأتي دعوة مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق في 3 فبراير الجاري إلى اجراء استفتاء غير ملزم على استقلال الإقليم المتمتع بالحكم الذاتي الواسع في شمال العراق لتجدد الحلم القديم في إقامة دولة كردية قومية تجمع الكرد الموجودين في العراق وإيران وتركيا وسوريا. هذا الحلم الذي يرجع الى حقبة رسم الاستعمار للحدود القائمة حاليا بين دول المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى حسب «اتفاقية سايكس - بيكو». لكنه طالما لقي معارضة قوية من تلك الدول.

ويرجع قيام إقليم كردستان العراق الذي يناهز عدد سكانه 4 ملايين نسمة إلى اتفاقية الحكم الذاتي التي تم التوصل اليها في مارس 1970 بين المعارضة الكردية والحكومة العراقية بعد سنوات من القتال. ثم جاءت الحرب بين إيران والعراق خلال الثمانينيات، وما عرف بحملة (الأنفال) من الجيش العراقي لتلقي بظلال كئيبة على منطقة كردستان العراق. وبعد انتفاضة عام 1991 ضد نظام الرئيس صدام حسين، اضطر الكثير من الأكراد الى الفرار والنزوح من البلاد ليصبحوا لاجئين في المناطق الحدودية مع إيران وتركيا. وفي عام 1991 أنشئت في الشمال منطقة حظر الطيران بعد حرب الخليج الثانية، مما شكل ملاذاً آمنًا سهل عودة اللاجئين الأكراد. كما واصل الأكراد فيما بعد محاربة القوات الحكومية. وغادرت القوات العراقية منطقة كردستان في نهاية المطاف في أكتوبر 1991. وغدت المنطقة مستقلة ذاتيًا بحكم الواقع. وقاد غزو العراق عام 2003 والتغيرات السياسية اللاحقة للتصديق على دستور جديد للعراق في عام 2005 والذي حدد منطقة كردستان العراق ككيان اتحادي ضمن العراق، وجعل اللغة العربية واللغة الكردية لغتين رسميتين مشتركتين في العراق. فضلا عن مشاطرة الأكراد في الحكومة المركزية العراقية في بغداد، حيث يتولى رئاسة الدولة كردي وبعض الحقائب الوزارية يشغلها أكراد.
وبالنظر إلى وضع الأكراد في العراق نجد أنه كان أفضل بكثير من حال الاكراد في البلدان المجاورة كتركيا وسوريا. فقد تمتعوا بالحكم الذاتي في عهد صدام حسين. إضافة إلى أن الأكراد كانوا من أكثر الأطراف داخل العراق التي استفادت من الغزو الاميركي والإطاحة بنظام صدام والاحتلال العراقي وما بعد الاحتلال.
ومن المظاهر التي يرى البعض أنها تصب تجاه انفصال واستقلال الاقليم، ما تقوم به حكومة الإقليم من حفر خندق تقول إنه لأغراض أمنية، من أجل منع حدوث هجمات في مناطق لها حدود مع أراض تخضع لسيطرة تنظيم الدولة ( داعش). بينما هناك من يرى أه يرمي الى ترسيم حدود الاقليم. وقد منحت الفوضى الناجمة عن احتلال داعش لأجزاء واسعة من أراضي العراق وسوريا منذ عام 2014، أكراد العراق الفرصة للسعي لتحقيق حلمهم القديم بالاستقلال.
وأيضا، سيطرة الأكراد على كركوك بشكل كامل الصيف الماضي، عندما هجر الجنود العراقيون قواعدهم في المدينة وحولها، مع اجتياح مقاتلي داعش نحو ثلث العراق. ويعلن زعماء أكراد إنهم لن يتخلوا أبداً عن كركوك التي تقع خارج الحدود الرسمية لمنطقتهم، وبها بعض من أكبر احتياطيات النفط في العراق.
إضافة إلى تأسيس قوات البشمركة لتكون جيشا للدولة التي يسعى الأكراد لإقامتها في مناطقهم بالعراق وسوريا وتركيا وإيران. وشنت البشمركة حرب عصابات ضد حكومات بغداد منذ عام 1961 وأيدت الغزو الأميركي للعراق عام 2003. وتحولت البشمركة لنواة جيش إقليم كردستان العراق بعد تأسيسه عام 2005. وسمح لها دستور الإقليم الجديد بالقيام بعمليات في الأراضي العراقية. في حين منع وجود أي جندي عراقي بأراضي الإقليم الكردي إلا بإذن من حكومته. وتتراوح تقديرات عدد عناصر البشمركة بين 150 ألفا وثلاثمائة ألف، ولديها كامل تسليح الجيوش النظامية من دبابات وأسلحة دفاع جوي، ولا تمتلك سلاح طيران أو بحرية.

وتخوض البشمركة حاليا حربا ضد تنظيم الدولة. فمن خلال جهود وحدات البشمركة وبمساعدة القوّات الأميركية وقوّات التحالف، تقوم القوّات الكردية حالياً بمحاولة التصدي للتنظيم في العراق وقد استعادت 27 ألف كيلومتر مربّع من الأراضي؛ وأسفرت هذه العمليات عن مقتل 1,603 محاربين من البشمركة وإصابة أكثر من 8,000 آخرين بجروح.

ثمة مصاعب وتحديات كبيرة تواجه حكومة الاقليم. فوجود داعش في الموصل يهدد جميع أنحاء منطقة كردستان العراق. وفي الوقت نفسه، تهدّد الأزمة الاقتصادية في كردستان جهود المنطقة في محاربة التنظيم. فقوّات البشمركة لم تتلقَ أجورها منذ شهر سبتمبر الماضي. كما أنّ حكومة الاقليم غير قادرة على تحمّل التكاليف المالية للحرب، بما في ذلك النقل والخدمات اللوجستية والغذاء والخدمات الطبّية. وهناك حاجة إلى قوّات على الأرض لاستعادة الموصل. وتُعدّ قوّات البشمركة موضع الثقة الأكبر في المنطقة. إلّا أنّ الوضع الاقتصادي لحكومة الاقليم يعوق قدراتها.
ويبدو أن الأوضاع الداخلية الصعبة التي يمر بها الاقليم هي السبب الرئيسي وراء دعوة برزاني للاستفتاء على الاستقلال كمحاولة منه للهروب من المصاعب الاقتصادية. ويعاني الاقليم من أزمة اقتصادية خانقة أثر تدهور اسعار النفط مما تسبب بأزمة مالية أدت إلى عجز الحكومة عن دفع رواتب موظفي القطاع العام. وأعلنت حكومة الإقليم مؤخرا انها لن تدفع سوى جزء من رواتب موظفيها بسبب الأزمة المالية الحادة. مما أدى الى تظاهر واضراب شرائح عريضة من المجتمع الكردي يأتي في مقدمتهم المدرسون ورجال الشرطة والأطباء وغيرهم.

ويقوم الأكراد بتصدير النفط من حقول كركوك التي تسيطر عليها قوات البشمركة ومن حقول أخرى في الإقليم عبر ميناء جيهان التركي بصورة مستقلة وخلافا لرغبة الحكومة الاتحادية. وهو أحد أسباب الأزمة الرئيسية مع بغداد التي قررت بموجبها قطع مستحقات الإقليم من الموازنة العراقية العامة البالغة 17% إلى حين يقبل بإعادة تصدير النفط تحت رقابة الحكومة المركزية ودفع مستحقاتها من أموال النفط الذي يصدره الإقليم بشكل انفرادي.

وكان إقليم كردستان وجهة سياحية بارزة حتى قبل سنتين. إلا أن توسع داعش في المنطقة يحول دون انتعاش السياحة مجددا. وتنذر الأوضاع المالية المتردية بأن سلطات الإقليم يمكن أن تواجه تمردا شعبيا شاملا ضدها مع اعترافها بصعوبة تصحيح هذه الأوضاع. ومما يزيد من أعباء الاقليم ايواء1.8 مليون شخص من المشردين داخلياً.

فضلا عن رغبة البرزاني في عمل اي شيء بغية الاستمرار في الحكم. ويرى البعض في هذه الدعوات للاستقلال محاولة لتشتيت الانتباه عن القضايا الداخلية وتوحيد الشعب الكردي وراء بارزاني الذي انتهت فترة رئاسته العام الماضي لكنه مازال في المنصب، حيث توجد أزمة شرعية لمنصب رئيس الإقليم مسعود بارزاني، الذي تجاوز مدته الرئاسية وبات يخضع لضغوط هائلة من المعارضة التي تتهمه بـ»الانقلاب» وتطالبه بالاستقالة والذهاب فورا لانتخابات رئاسية جديدة.

كما أن دعوة البرزاني تواجه بالطبع معارضة قوية من قبل الحكومة العراقية، حيث حث رئيس الوزراء حيدر العبادي إقليم كردستان على عدم إجراء الاستفتاء المرتقب قائلا إنه لن يكون في صالح الإقليم ولا في صالح العراق. كما تلقى معارضة من قبل دول الجوار مثل تركيا التي تخوض حربا ضد الاكراد وتعتبر الفصائل المسلحة منهم جماعات ارهابية. كما أن إيران تعتبر من أشد الرافضين لمسألة قيام «دولة للأكراد». واعتبر علي أكبر ولايتي المستشار الحالي للمرشد الأعلى الإيراني أن الدولة التي يطمح إليها الأكراد هي بمثابة «إسرائيل ثانية». وحذر ولايتي مؤخرا من وقوف أطراف تطمح لتغيير خارطة الشرق الأوسط مستخدمة ورقة الانفصال الكردي، متهما الصهيونية والإمبريالية بالوقوف وراء محاولات تفكيك المنطقة. وكذلك الحال بالنسبة لسوريا المنشغلة بالصراعات الداخلية. كما أعلنت الولايات المتحدة أيضا إنها تريد أن يبقى أكراد العراق جزءا منه. وكان الاتحاد الأوروبي أبلغ إقليم كردستان العراق في 31 يناير الماضي رفضه إجراء استفتاء بشأن استقلال الإقليم في الوقت الراهن. وحث الاتحاد قيادة الإقليم على إجراء اصلاحات داخلية وتحسين العلاقات مع الحكومة المركزية ببغداد. كما قاطعت 3 قوى كردية اجتماعا دعا إليه بارزاني للبحث في عملية الاستفتاء التي طرحها رئيس الإقليم.
اجمالا، اذا كانت الأوضاع المعيشية في الإقليم بهذا السوء، فهل السبب في ذلك هو وجود الإقليم ضمن العراق؟ أي هل الحكومة المركزية في بغداد هي التي أعاقت تقدم وازدهار الإقليم؟ وبالتالي يكون الانفصال هو فك القيد من أجل الانطلاق. واذا كان الإقليم ليس لديه أي من مقومات الدولة، فكيف سينطلق؟ وكيف ستكون علاقاته بجواره الرافض أصلا لهذا الانفصال، سيما وأن الإقليم بمثابة منطقة حبيسة أي ليس له امتدادات بحرية؟ فما هي مصلحة الأكراد في هذا المسعى إذاً؟

”.. من المظاهر التي يرى البعض أنها تصب تجاه انفصال واستقلال الإقليم، ما تقوم به حكومة الإقليم من خفر خندق تقول إنه لأغراض أمنية، من أجل منع حدوث هجمات في مناطق لها حدود مع أراض تخضع لسيطرة تنظيم الدولة ( داعش). بينما هناك من يرى أنه يرمي إلى ترسيم حدود الإقليم. وقد منحت الفوضى الناجمة عن احتلال داعش لأجزاء واسعة من أراضي العراق وسوريا منذ عام 2014، أكراد العراق الفرصة للسعي لتحقيق حلمهم القديم بالاستقلال. ”

السيد عبد العليم
مترجم وباحث سياسي
[email protected]