صور
متلاحقة للغياب والحضور والحزن والدهشة في مجموعة الشاعرة
اللبنانية صباح زوين
بيروت - رويترز : في مجموعة الشاعرة
اللبنانية صباح زوين الأخيرة التي حملت عنوان ( في محاولة
مني ) صور متلاحقة كغمامات لطيفة متتابعة ، ولوعة وحزن ودهشة
وتبادل غريب للأدوار بين الغياب والحضور بل تشابه تضيع فيه
الحدود بين الاثنين. وفي الصور الفنية الموحية هذه التقاط
مرهف لحالات من الغربة وابرازها في اشكال او رموز مادية
وفي حالات نفسية كذلك. وترسم هذه الصور ما يشبه دهشة الاطفال
حينا.. وحزنا وشبه يأس وهما حصاد يرافقنا في اعمار ابعد
من الطفولة اي انه من فعل احزان تنتج عن حركة الزمن المتراكضة
وقد انعكست في النفس الانسانية. لكن هذه الصور الجميلة على
كثرتها وتتابعها تبدو اقرب الى تنويعات لحالات تتشابه في
منطلقاتها وكثير من سماتها لكنها مع ذلك لا تخبو ولا تزحف
إليها ميكانيكية أو برودة بل تبقى في مجملها تحمل في تضاعيفها
حرارة هي سمة حياة. وتبقى المجموعة اقرب الى قصيدة واحدة
على رغم ما يبدو من اختلاف في تموجاتها التي لا تلبث ان
تتضافر لترسم ما يشبه بحيرة صغيرة هادئة تدخل احزانها النفس
دون عصف اي بهدوء نفاذ. المجموعة -وهي تاسع كتب صباح التي
صدر بعضها بالعربية والفرنسية والاسبانية- صدرت في نحو 80
صفحة متوسطة القطع عن دار نلسن. تبدأ صباح زوين بصورة موحية
قد يواجه الانسان ما يذكره باجوائها عندما يكون في سفر وغربة
ووحدة. اننا هنا لا نعود نعرف ما اذا كان من نراه هو اخر
ام انه نحن في انعكاس غريب مسرحه عالم النفس. هل انا التي
تقف امام اثنتين اخريين ..امام غريبتين.. ام ان انا هذه
تقف امام انا اخرى.. وكما في كثير من صور المجموعة لا يبدو
المكان محددا تماما بل ان ما يبرز من سماته وقسماته يوحي
بأماكن مختلفة يجمعها كونها اوروبية حينا وغربية اجمالا
وغريبة تختصرها كلمة هناك فكأنها مرادف لكلمة الاخر. تقول
صورة ريمبو كيف وجدتها ايضا هناك ومرقت طيفا في شوارع هناك
الوقت ليس لنا الامكنة غائبة وتزيدني غيبوبة امراتان على
رصيف المحطة امراتان بقيتا واقفتين تتشابهان حدقتا فيّ من
خلال شباك القطار.
وتقول في مراوحة بين ما هو واقعي وما هو حالة نفسية اعلى
منه واكثر ضبابية.. او في مزاوجة بين الحالين على رصيف المحطة
اخذ يخبو طيفي كان الوقت عصرا والمدينة توارت هناك بقي شيء
مني حركة يد والجلوس للفطور. ويتحول الواقع الى صور متلاحقة
ليست بغريبة اصلا لكن الشاعرة اذ تقدمها تبدو لنا كأنها
تمر من خلال عيني طفل يرمق العالم من خلال نافذة مركبة مسافرة
وفي ما يبدو حالة هي بين النعاس والدهشة.. وهيهنا ترتفع
بالعادي ليصبح كأنه تصوير نسجته المخيلة. تقول في مقصورتي
لازمت مطرحي طوال الوقت وجهي لاصق بالخارج حيث رأيت خيام
السياح في ربيع بارد ورأيت رجالا عاديين وبيوتا متاخمة لسكة
الحديد. في مجال اخر تنتقل من الواقع والمحسوس الى ما هو
ابعد منه. تقول بجسدنا الأليم نختصر أيامنا وبالتفاتة مني
بقي كل المعنى هناك سمعنا أنغاما مقلقة وجلسنا لساعات إزاء
بعضنا في أصيل مائل إلى الأزل. المجموعة تحفل بأجواء شعرية
تصويرية كهذه. وفي عملية شرح نادرة توضح لنا صباح أهمية
ما تقع عليه العين وسرعة انتقاله إلى المخيلة او إلى أعماق
النفس. وفي شيء من البرودة النادرة في المجموعة وقد فرضتها
ضرورة تقريرية تقول بضعة أيام تكفي لدفع لغة صورة قطار تكفي
لبناء قصيدة مطر قليل يكفي لامتداد كتابي مشهد امرأتين يكفي
لإيحاء طويل بضعة أيام في بيت تكفي لتملاني كتابة لحظة موت
تشبه الأزل في مطبخ بارد.
أعلى
صـوت
0
بريق .. في قلبي
* صـدفة ...
لم
يبق سوى بريق واهن في قلبي ...
التقيت بك ـ الخل الوفي ـ بعد فراق دام ثلاث سنوات ، لم
أعرف خلالها عنك شيئاً ، سوى إنك سافرت ، ولم تعد .. استقر
خيالك في حفائر النسيان . كل منا يحمل سلة صغيرة يجمع فيها
ما يقتات به . سألني : ماذا فعلت خلال سنوات غيابي ؟! أجبت
: ابتليت ، بالعشق والجنون .لا فكاك لنا من الكتابة ، سوى
بالموت . لن ينقذنا من الفناء أو الاندثار ، سوى .. امرأة
.
أطرق ، ثم قال : البلاء .. اختبار لك. عقبت كأنما أحدث نفسي
: اختبار قاس فوق طاقتي ، نحن بشر ، أنا آدمي .. ضعيف .
من منا يعش بلا امرأة ، نصف امرأة ، امرأة فقدت أنوثتها
؟! الرجل الفحل يريد امرأة كاملة الأنوثة ، يشتاق إليها
، يضمها إلى صدره ، و.. هي تشتاق له ، يحتويها في أحضانه
، ينام الليل قرير العين ، مرتاح البال .. بعد هذا البلاء
، أصبت بمرض التوحد ، ولم يك أحد بقادر على أن يخرجني من
هذه العزلة.. سوى هي . سألني عندما توقفت : هي من ؟! أجبت
: صدفة .. برقت في قلبي مرة واحدة ، لمحة ، ولم يخبو البريق
. الصدفة لا تأتي إلى باب البيت وتطرقه .. ثم تدخل علينا
. منذ ذلك الحين .. ظللت حائرا ، ابحث عنها ، في كل الطرق
، أجوب الشوارع والحواري والأزقة مثل أسارى الظلمات .. ظللت
على هذه الحال ثلاثة عشر يوماً ، واثنتي عشرة ليلة . لم
التق بها حتى التقيت بك ...
سألني سؤلا صعبا ، أتحبها ؟ . لم أجب .. حملني السؤال بعيدا
إلى بحار الحيرة .. حيرة السؤال تعاودني مرة أخرى ، مرارة
الجواب كأمنية عذبة تموت وهي على طرف اللسان.. قابلتها ذات
مساء . يامن يعز علينا ..انقذيني من الحيرة ، من الموت ..
والجنون !! جاءت ذات مساء حزين لتسألني سؤالا صعبا . هل
سنلتقي في منتصف الطريق ؟! ظللت طوال الليل مع حيرة السؤال
. حيرة السؤال . سؤال صعب لم أجد له الجواب ، ظللت ابحث
في كل الطرقات . أفتش في خلايا الذاكرة عن الجواب . أمل
في نفسي. حلم حياتي . فكرة في ضميري . هل وجدته . لا ، لم
أجده ...
هيه .. ماذا حدث لك بعد ذلك ؟! . في الصباح الباكر الندي
الحنون ، بحثت عنها في كل الدروب ، لأعطيها الجواب ، لم
أجدها . كانت معي ولم أجدها .ـ تذكرت قول شاعر قديم : إذا
ترحلت عن قوم ـ ماذا فعلت ؟ كل مساء كانت هي تبرق في داخلي
، يلتمع ضوء خافت ، باهت ، حنون ، مياه بئر تضوي في الأعماق
البعيدة ، لا أستطيع الوصول إليها .. كلما اقتربت ألآمسها
بأطراف أصابعي ، أحاول الإمساك بها ، أجدها تفر من بين أصابعي
المرتجفة !! . هل هذا حلم ، هل كنت تحلم ، تتخيل أو تتذكر
، أنا لا أعرف ما الذي حدث لي ، كنت في حالة تشبه شطحات
الصوفية ومقاماتهم . هل مازلت مريضا بالتوحد .. لافرق ،
لافرق بين الاثنتين . لكنني كنت واثقا أن البريق في الأعماق
، يضوي في القلب ، يلتمع .. ولا يتوقف . وإنني سوف أصل إليه
وأمسك به وأعرف الجواب على السؤال الحائر . ما الذي حصل
لك بعد هذه الهلوسات . هيه .. عشت أياما كئيبة بين الجدران
الأربعة ، هذا الحبس الانفرادي ، المنفي الاختياري .. مكثت
زاهدا في كل شيء من العلائق الأرضية التي تشدني نحو المنحدر
، حرث الدنيا ومباهج الحياة . نحل بدني ، أصابني الوهن والضنى
، دخلت عالم التوحد . تقصد العزلة . بعد حالة التوحد والعزلة
. بدأ الغياب .. كانت هي من أصعب مرحلة أمر بها في صومعتي
، مقبرتي الدنيوية التي أقيم فيها .. هذا الابتلاء وهذه
الشدة أو المحنة ، ماذا حدث لك ؟ . كل ليلة ظلماء ، أجرى
والهث وراء هذا البريق الخافت في الأغوار البعيدة ، أجد
الليل يغشى النهار ولاينتهي أرق السؤال . وفي الصباح ..
أخلع النعال وامشي حافيا في الأسواق . كدت اقترب من مقام
الجنون . أنا مازلت في مقام العشق .. الوردة في يد العاشق
، امرأة . سألت عنها لتحصل على الجواب ؟ سألت كل الحيارى
، كل من جلس في حضرتها من أسارى الظلمات ، كل من عشقها مثلي
.. قال لي الخل الوفي : لماذا تبحث عنها بالذات ، ألم تجد
أخرى تشبهها ؟! وضحك بمرح طفولي ، فطري ، واستكمل : توجد
آلاف الصدف ستقابلهم في منتصف الطريق ، نصف المسافة ، كما
تريد أنت . لم أهتم بالجواب ، قلت له : هي ، لا أريد آلافا
غيرها ، أريد صدفة واحدة تشكل حياتي من جديد ، تنير طريقي
في دياجير الليل المعتم ، البريق .. الذي يلتمع في قلبي
. هي . هي . الجواب . الحلم . الأمل . الشفاء . دواء العليل
.. من حيرة السؤال وأرق الليل . الخروج من أزمتي وحالتي
المتردية منذ ثلاث سنوات . منذ أن سافرت أنت .. أنا الزاهد
أسير في حضرتها حتى يتلاشى أرق الليل ، وحيرة السؤال .عافت
نفسي الطعام والشراب .لم يبق سوى بريق واهن في قلبي . لاشيء
يحمينا من الفناء .. سوى الكتابة . كيف يمضى الرجل في الطريق
، دون امرأة ؟! . لاشيء يحمينا من الموت أو الجنون سيدتي
. الوردة في يد العاشق . إن لم تأت صدفة ، في منتصف الطريق
، وينتهي الأرق ، سوف أصاب بالجنون . ربي..هبني القدرة على
أن أنام . هبني القدرة . على . أن ...
عبدالسـتار خليف *
* من أسرة تحرير ( الوطن )
أعلى